الكلمة سر الحياة في التعبير , ومخزون منطوق في الدلالة , وعلى مطالع حروفها سلافات من دفق رؤى , وسرح مشاعر , بذاتها كلمة , وبحضورها ضمن بعدها الدلالي في سياق , فتروح من بعدها المعجمي إلى مكامن ظلالها فيئاً في مرامي ما تصبو إليه , يشد من أزرها نظم دلالي يوسع المعنى معنى .
وقد اتسع التراث اللغوي ليبرز التباين ما بين الكلام والكَلِم .
و إذا ما أكثر المرء في الحديث عبر الكلمات وحدات صوتية ربما يوقع نفسه في حبائل هرج ومرج من اختلاط في اضطراب .
ومن القدم خبرة بشرية توقف الكثيرون عند جماليات الكلام عبر اللغة أنساقاً وعلوم الإنسان شراكة في مقاربة ما تضج به الدنيا تدافع أعصر , وتعاقب دهور و اطمأنوا إلى الصمت قيمة في بلاغة القول , وقد فاضت الروح تهجداً في محراب التأمل , وسكوناً في هدوة الاستغراق الباطني , والتماهي مع خفايا الحنايا والضلوع من سكنى التفاصيل , وقراءة نتف القال والقيل , وشذرات ما يلمع من أصورة بريق عبر مدارات جنبات الحياة , وصعدها على وقع هجيرها لظى في متاعب الذات وصقيعها ابتراداً على مطلول أنفاسها وجوداً ما بين ذاتي وموضوعي , ليأتي الصمت خميرة تعجن بإكسير التجارب والوعي المعرفي بلاغة قراءات على شرفات النباهة إدراكا لوعي يفوق الكلام فيكون الصمت إمساكاً عن النطق , لكأن مفردات أصابها إعياء في تعبير , وبُهرٌ في دهش لتأتي أمارات الوجه إيماءات يفيض قول عجزت عنه الكلمات من غير أي حرج , لكأنها القوافي في استنهاض معنى في سردية بيت من الشعر .
هو هذا الصمت الرزين الممسك بخيوط الأفكار يصوغها شالاً على كتفي كل انتباه , وذاك الوشي المطرز على جيد ممراح من بوح بريق وميضها يستنطق اللامعات نجوماً في مساحة بحجم صفاء السماء جمالاً في بهاء كل فن ولون وسرح تفكير مبدع خلاق .
هو الصمت الذي يتأتى حكمة من تملٍ يتجاوز السعادة العابرة بحثاً عن عميق تأمل ربما في خمرة أحزان لأنه استوطن في مكامن عميق التفكير وسعة الحياة استنهاضاً للقدرات , واستثماراً لها من ميزات وللزمان مساحة من وقت ليغدو بذلك الصمت مشروع تأمل في تدبير , وبرنامج عمل في تخطيط , وانتقالاً من رؤية في بصر إلى رؤيا في تمثل وعي و إبداع في تفكير .
وجميل قول : رسول حمزاتوف في كتابه « داغستان بلدي » الإنسان يحتاج إلى سنتين ليتعلم الكلام و إلى ستين عاماً ليتعلم الصمت ،لكأني به يرمي إلى الحكمة وقد تخمرت في دنان وعيه .
هو الصمت في حرم الجمال جمال , وفي سداد المنطق أبلغ منطقاً , وفي كينونة الطبيعة استدارة فلكة قمر تتسربل على أضوائه امتلاءات الشرود والتأمل وتداعيات الخواطر , وسفر السادرات أحلاماً على أطياف نسمات الليل ووشوشات همسات السامرين في كياسة عرزال تشابكت أغصانه تعاضد إطلالته بشفيف تعاقب الأيام في ارتعاشات كروم الدوالي تحتفي بعناقيدها نشوى بابنة الكرم والمعتق في صدق الكدح في حبات عرق على سطور الحقول .
هو الصمت وقار وتحليل وتعلم وابتكار و إبداع , وأصالة رقي في احترام عبقرية مجد ذي باع في احتضان الفكر والريادة في مكامن أصالة تعبه فيكون الحضور حضور عقل منفتح إلى فضاءات أفكار وحيوية إنسان في اتساع حياة ومدى هو الصمت دموع نباهة في عراقة تأمل لمثخنات جراح تسيل على خد أسيل ناعم تحكي العينان وترتعش الأهداب وقد عجزت الكلمات فأطبق الثغر وفاضت المآقي بسيل مثخناتها كل في مراد مجاريها .
هو هذا الصمت يوقده لحن شجي وقد قيده تعثر في مواقع فكان حاضراً شغاف شفيف وجد .
ولرب صمت من شجي موجعٍ جمع البيانَ وشفّ عن مكنون
هو الصمت فلسفة العقل في اصطلاء النفس , وغنائية الروح في نفحات كل عبق و إشراقة النور في مكين تأمل , وصمت الصمت في فرادة كل سرح من تأويل وتحليل وتفسير , وإشباع لكل تجذر في ثنائية تحليل وتركيب وجميل الآتي :
أطيل الصمتَ , لا للصمت أعشقُهُ ولكنْ فيه دنيا غيرَ دنيانا
نداءٌ من وراء الكون أسمعُه ُ فيبعث في حطام النفس إنساناً
نزار بدّور