في عام 1967كنتُ أستأجر شقة في الشارع الذي يمتدّ منه شارع أهلي، وبعد مشاورات قرّ الرأي أن أبني ثلاث غرف لي في فسحة الدار العربيّة التي يسكنها أهلي وأخوتي، وربّما شدّني إلى ذلك رغبة أبويّ في أن نظلّ معا، كان الأبوان رحمهما الله يودّان لو يظلّ أبناؤهم معهم طيلة حياتهم، وبالفعل اتّفقنا مع متعهّد بناء على أن ندفع له مبلغ ثلاثة ألاف ليرة، وأن يقسّط الباقي بكمبيالات مسحوبة، ومقدار كلّ كمبيالة خمس وسبعون ليرة كلّ شهر، وارتفعت الغرف الثلاث، دون أيّ دهان، المهمّ المأوى، وظلّت واجهة البيت، وهي غرفتان من « اللِّبْن»، حتى يسّر الله في ذلك، وليس هذا المقصود من هذه الزّاوية، بل ثمّة ماسيأتي، إذ بعد مدّة قرّر أخواي اللذان يعملان في الدّهان، أن يدهنوا غرفة الضيوف، وساعدهما في ذلك أصدقاء لهما، وبعد أن انتهيا من ذلك، شاوراني في أنْ يدعوا مَن ساعدهما إلى عشاء وسهرة، فلم أمانع، ولمّا كان المدعوّون أصغر منّي سنّاً، اتّفقت معهما على أن أتغيّب عن البيت، لأفسح لهم المجال في حريّة يوفّرها غيابي، في تلك الأيام جاء عمّي الأكبر من القرية يشكو من مرض ما، فاستضفناه في واحدة من غرف اللّبن، وكان في محضره الكثير من الأنس، والبداهة، حين يكون مروِّقا، وأبعدك الله عنه حين يكون في حالة غضب، وبقي في بيتنا لعدّة أيام، ووافقت الأيام حلول تلك السّهرة، فذهبت لزيارة صديق لي، وتعمّدت التأخّر لكي لاأسبب إزعاجا لأحد، وعدت بعد الثانية ليلا، وفور دخولي من باب الدار وصلتني أصوات الآلات الموسيقيّة، نظرتُ باتجاه الغرفة التي ينام فيها عمّي فوجدتُها مُضاءة، وهو يجلس في سريره، فسلّمت عليه وقلت له : «أما تزال سهران»؟! فقال بلهجة المرتاح المنشرح:» وكيف أنام وهذه الآلات كما تسمع»؟!!، قلت : « هل انت مزعوج»،؟!!وكان طروبا، ولا يعرف إلاّ غناء الأرياف وآلاتها الموسيقيّة»، فعدّل من جلسته وقال :» أبداً»، واستنتجت من كلامه أنّه اقترب دون أن يراه أحد من الغرفة التي انعقد فيها السّهر، ونظر بحذر، فشاهد مالم يشاهده في حياته، قال لي بتعجّب:» عمّي هل تعرف هذه الآلات»؟!، وكنت قد ميّزتُها من أصواتها، فقلت:» كيف لاأعرفها»؟!،فأغمض عينيه وأدار رأسه يمنة ويسرة، وشدّ من ملامح وجهه تعجّبا، فتابعت:» هذه الآلات هي العود، والكمان، والنّاي، والدّربكّة، فعدّل من جلسته بجديّة أكبر وقال: يا عمّي في ناس لم تقعد منذ أوّل السهرة حتى الآن، يرقصون رقصا لم أشاهده من قبل، ضحكت وقلت: هذا يسمّونه في حمص الرّقص الشيخاني»، وكان في عائلتنا شاب فائر الشباب، من قبضايات الحيّ، يده والضرب، وما يكاد يخلو أسبوع من مشاجرة له، حتى اشتُهر في فتوّته، وربّما أصابتْنا بعض الإرباكات بسببه، وكان بين السّاهرين، فعدّل عمي من استعداده وسألني شبه مستغرب، وقال بحزم: لماذا تلومون فلاناً، عليم الله شيء يجعل (الكِدش) تقفع السطح»، وأغمض عينيه وأخذتْه ضحكة مكتومة طويلة،
عمّي هذا جاءنا ذات يوم في مراجعة للطبيب، وبقي في بيتنا عدّة أيام، وأنا أُشرف على تناوله الدّواء، ويُقال إنّه كان في شبابه يعزف على الرّباب، وإنّه ذو صوت شجيّ، ذات جلسة معه، انشرحت أساريره، وقال لي بتودّد: « هل تريد أن أتعافى»؟! قلت:» وهل تشكّ في هذا»؟!! قال:» «إمْسكْ الرّباب، وغنِّ لي بيتين عتابا عن بنات العرب»،
تنطوي الأيام، وما يبقى منها سوى ذكريات لاندري متى تُداهمنا، ولا كيف، ولا لماذا؟! ورحم الله أياما كان الموظّف فيها يتجرّأ على البناء بقسط شهريّ مقداره خمس وسبعون ليرة…
aaalnaem@gmail.com
عبد الكريم النّاعم