الكتابةُ فن وإبداع ، خلقٌ من خلقٍ ، روحٌ من روحٍ ، وحيٌ وإلهام ، ومع ذلكَ كُلِّهِ وبالإضافةِ إلى هذا المزيجِ السِّحريِّ والمُعقَّدِ من الصِّفاتِ الخُلُقيَّةِ والمَخلوقةِ – الفطريَّةِ ، والمُكتسبة المبتدعة (المُبتكرة ) هي أيضاً حاجةٌ إنسانيَّةٌ مُلحَّةٌ ، فالكتابةُ قد لا تكونُ مَوهبةٍ فطريَّةٍ ، ولا نتيجةَ رغبةٍ عابِرةٍ خطرَت للقلبِ مرَّةً ومضَت ، وأقولُ للقلبِ لأنَّ الكتابةَ بِجُملَتِها مشاعِرَ مكبوتةٍ وأحاسيسَ دفينَةٍ ، ومَكمَنُ المشاعِرِ والأحاسيسِ هو جوهرُ القلبِ ، بل كثيراً ما كانت وليدةَ حاجةٍ في نفسِ الكاتبِ قد لا يُدرِكُها القارئُ بحدِّ ذاتِها لكنَّها قد تتركُ فيهِ أثراً عميقاً ، فالأدبُ النَّابِعُ من عُمقِ المُعاناةِ ، أو من نشوةِ الفرحِ ، صادقٌ ، ولا أصدقَ من كلمةٍ تنسجُها سعادةٌ مُحقَّقةٌ أو يغزلُها ألمٌ مكبوتٌ وحزنٌ فشِلَ صاحِبَهُ في التَّعبيرِ عنهُ كغيرهِ بأحاديثَ عابِرةٍ ودَمعاتٍ صارِخةٍ وآهاتٍ تُمَزِّقُ الوجدان ، قد ترى إنساناً عاديَّاً بسيطاً باسِماً مُستبشِراً فتخالهُ سعيداً لا يعرفُ المُعاناة ، قد تقرأ له بِضعَ كلِماتٍ خطَّها مصاُدفةً فتُدرِكُ مدى الانهِزامِ بداخلهِ ويصلُ إليكَ صوتُ حُزنِهِ الصَّامِتِ وبوحُ قلبهِ المُكابِرِ .
إذاً فالكتابةُ ليسَت فنَّاً أدبياً وحَسبُ ، إنَّها أيضاً نافِذةٌ لِلقلوبِ السَّاكِنةِ تُشَرَّعُ نحوَ عوالِمَ مجهولةٍ في ذواتِهِم ، قد لا يُدرِكوها هُم أنفُسَهُم إلَّا حينَ تنبَعِثُ من أرواحِهِم في لحظةِ ضَعفٍ تُباغِتُهُم في غفلةٍ ، وبعدَ أن يكونوا قد وصلوا آخرَ درجاتِ اليأسِ والاستسلامِ الدَّاخليِّ فيُدْلوا بِكُلِّ ما يؤَرِّقُ أرواحَهُم ويَبوحُوا بِعَميقِ أسرارِهِم ويَغوصُوا إلى سحيقِ ذواتِهِم التي اكتشفوا فجأةً مدى هشاشَتَها وانكِسارَها فلا يعودُ بإمكانِهِم التَّراجُعَ أبدا ، وحينَها فقط ودونَ خوفٍ أو ترَدُّدٍ يَستَجيبُوا لِإغراءِ البياضِ الرَّاقِدِ فوقَ أوراقِ شبابِهِم الذي بدأوا يَشعرُونَ بهِ يَضيعُ ويتلاشى شيئاً فشيئاً ويتسرَّبُ منهمُ تارِكاً إيَّاهُم مَهزومينَ ضُعفاءَ مكسورينَ ، لكن مَهلاً لن يكونَ هذا أبداً … صوتٌ ما يصرخُ بِداخلِهم .. لن يكونَ هذا وبِإمكانِهِم أن يَمْسُكوا قلماً ويَخطُّوا حرفاً ، لن يكونَ هذا أبداً وباستِطاعتهِم أن يَرموا بِكُلِّ ما يُثقِلُ أرواحِهم ويتخلَّصوا من كُلِّ ذاكَ الألمِ بينَ سطورِ ذاكَ البياضِ الذي يُناديهِم من خلفِ جُدرانِ صَمتِهم ، وتلكَ لحظةُ ولادةِ الفكرةِ ، هي لحظةٌ خارِجَ الزَّمنِ يَستَعيدُوا فيها حياتَهُم دُفعةً واحِدةً ، ويُعيدُوا ترتيبَها على مَهلٍ ، وكأنَّهُم ليسوا هم مَن عاشوها وأرهقَتْهُم تفاصيلَها وأحداثَها ، هي لحظةٌ يتجرَّدُوا فيها من ذواتِهم ، قد يهدِمُوا فيها ما استغرقوا عُمْراً في بِنائِهِ ، يَمحوا أحداثاً ويَنسجُوا أحداثاً أخرى، قد يؤمِنُوا بما أمضَوا عُمرَهُم يُنكِرونَهُ ، ويُنكِرُونَ ما عاشَوا دهراً يعتقدُونَ بهِ ، نعم هي لحظةٌ وليدةٌ قد لا يَعودُوا بعدها كما كانوا قبلَها أبداً ، لكنَّها أبداً حقيقةٌ صادقةٌ لا يَشوبُها زَيفٌ ولا تَشويهٌ ، فهم لا يكتبُون كي يُبدِعوا إنَّما يستنجِدُونَ بِما يعلمُونَ يَقيناً أنَّهُ لن يُحاسِبَهُم يوماً ، ولن يُسائِلَهُم عَمَّا كانَ وما لم يكُن .
فالكاتِبُ إذاً ليسَ إلَّا إنساناً عصفَت بهِ رياحُ الدُّنيا فنسفَت كُلَّ ما أمضى عُمرَهُ يَبنيهِ ويَذودُ عنه بِكُلِّ ما أُوتيَ من قوَّةٍ وإرادةٍ وعزيمةٍ ، فصارَ بعدَ إذ يكتبُ كي يُزيحَ ما جثمَ فوقَ صدرِهِ من أهوالِ الدُّنيا الفانيةِ ، والتي أدركَ أخيراً أنَّها زائلة وأنَّ ما حمَّلَهُ لنفسِهِ من أعباءٍ وما تحمَّلَهُ من أحزانٍ وأوجاعٍ ، وما أضاعَ عُمرَهُ في بِنائهِ ليسَ إلَّا أوهامٍا مُتداعيةٍ ، ثُمَّ بعدَ ذلكَ تولَدُ الفكرةُ التَّوءمُ بعدَ أن يكونَ قد أزاحَ السِّتارَ عن خبايا نفسهِ ، ونثرَ ما نثرَ من أسرارِها الخَفيَّةِ حيثُ يبدأُ الصِّراعُ بينَ الاستسلامِ لِلَذَّةِ الكِتابةِ أو العُزوفِ عنها ، ولا يقوى على اتِّخاذِ قرارِهِ المَصيريِّ ذاكَ إلَّا بعدَ أن يُعيدَ قراءةَ ما كتبَ عشراتِ المرَّاتِ فإمَّا أن يُمَزِّقَ ثوبَ الكلِماتِ ويعودَ ليستَتِرَ بثوبِ الصَّمتِ القديمِ المُؤلمِ ، وإمَّا أن يجِدَ فيه ما يَستَحِقُّ المَزيدَ من البَوحِ والمَزيدَ المزيدَ من التَّجلِّياتِ التي ستصيرُ فيما بعدُ إبداعاً لا يُدرِكهُ هو نفسهُ إلَّا فيما بعد ، وقد لا يُدرِكُه أبداً ، وهذا ما قد يُفَسِّرُ على مدى العُصورِ ظهورَ أُدباءٍ بعدَ سنِّ الثَّلاثين وأكثر ، وقد يُفسِّرُ أيضاً قلَّةَ النِّتاجاتِ الأدبيَّةِ لِأُدباءٍ عُظماءَ اشتهروا على مستوى رفيعٍ جدَّا ، فهم لم يُبدِعوا لِأجلِ الإبداعِ ، بل أبدَعُوا لحاجةٍ ما بِداخلِهم ، رافقَتْها رغبةٌ ولَّدَت مَوهبةً أنتجَت إرثَهم الإبداعيِّ الخالِد.
ومع ظهورِ« السوشل ميديا» في السَّنواتِ الأخيرةِ ، وانتشارِها على نطاقٍ واسعٍ جداً ، وبينَ جميعِ فئاتِ المُجتمعِ دونَ استثناءٍ ، نجدُ أنَّ الكتابةَ قد اتَّخذَت مَنحىً آخرَ علَّهُ لا يبتعدُ كثيراً عن مسارِها الأصليِّ ، لكنَّهُ صارَ أكثرَ وضوحاً وانتشاراً ، حيثُ أصبحَ مُتاحاً أكثرَ من ذي قبلٍ ، ولم تَعُد الكتابةُ حِكراً على الأُدباءِ وحدَهُم ، حيثُ يستطيعُ أيُّ شخصٍ يجدُ في نفسهِ رغبةً ما أو حاجةً ما ليبوحَ بمكنوناتِ روحهِ وخبايا قلبهِ وأفكارهِ التي تراكمَت عبرَ مسيرةِ حياتِهِ بغضِّ النظَّرِ عن مدى طولِها أو قِصَرِها يَستطيعُ أن يَسرُدَ ما شاءَ من الأحداثِ والحِكاياتِ ، أن يَنسُجَ ما أرادَ من خيوطِ مشاعرهِ المُتشابِكةِ أسراباً من قصائدَ وأقاصيصَ و خواطِرَ ، ثُمَّ ينشرها على الملَأ ودونَ أيِّ مُعاناةٍ أو تَكاليفَ قد تَعوقُهُ ، بل قد تجعلَهُ ينسفُ كُلَّ رغبةٍ أو كُلَّ حُلُمٍ راودَهُ بِأن يَنثُرَ إبداعَهُ أو على الأقلِّ ما وجدَ فيهِ من نفسهِ حقَّ الظُّهورِ أمامَ العالَمِ يضعهُ بينَ أيدي القُرَّاءِ على اختِلاف مشاربهم .
مي الخليل