عندما يسدل ستار الظلام أمام بصر إنسان ما فإن ستار الموهبة الرائعة يرفع أمام بصيرته الفذة ،فيقود المبصرين عبر دروب الاكتشاف الجديد والإبداع المميز والعطاء غير المحدود ،والعبقرية الخالدة ،إنها الموسيقى التي يعزفها ضياء القمر على نادي الصمت ،لتضفي على الأحلام وجوداً ملموساً حيث لاصلة أبداً لألوان الثياب بالحداد ،فعندما يجف الواقع فإن حقيقته تتشكل في الذاكرة .
وهذا ما حصل مع عميد الأدب العربي الدكتور «طه حسين «وفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة «أبو العلاء المعري «وصنّاجة العرب «بشار بن برد «هؤلاء الفرسان الثلاثة مناجم حقيقية حفلت بعروق الذهب والماس لأنهم لم يستسلموا أبداً لهذه العاهة المؤلمة «العمى «بل خرجوا من منطقة الحزن وأطلوا على شرفة الفرح فاستحقوا من المجتمع كل تقدير واحترام لم يحظ به كثير من المبصرين ،فهم ليسوا غيمة عاطلة عن العمل بل مطر مدرار يروي العقول ويشرح الصدور وينعش القلوب .
«طه حسين «ولد في مصر عام «1889»وفقد بصره وهو طفل ،درس في الأزهر ثم في الجامعة المصرية ثم في السوربون بباريس عين أستاذاً في الجامعة المصرية وعميداً لكلية الآداب ووزيراً للتعليم ،كان يتمتع بذكاء متوقد ،وجبروت وعناد وأسلوب بكر نقي وحديث ممتع ساحر ونهج جديد في النقد ،وعاطفة صادقة وذاكرة جبارة ،ومن مؤلفاته «الأيام » وفي الأدب الجاهلي «و»مستقبل الثقافة في مصر «وغيرها …اعتمد النهج العلمي الجريء في التحقيق والنقد بأسلوب سهل وسلس فيه انسياب رائع وذوق رفيع وإشراق روحي وشفافية نفسية ،وترقرق هادئ ،وتوفي عام «1973».
«بشار بن برد «»96-168هـ»:ولد بشار في البصرة أعمى وفقيراً ،ونشأ بين الأعراب فصيح اللسان ،ونظم الشعر وهو طفل وجعل شعره سلاحاً ماضياً بدلاً عن عاهة العمى التي ابتلي بها ،اتصل بكبار العلماء والشعراء ذوي المكانة والنفوذ والمعرفة الغزيرة ،فساواهم وتفوق على بعضهم ، بالإضافة إلى شجاعة القلب والذكاء النادر ،وقد اتهم بالشعوبية ،ودار معظم شعره حول الهجاء والغزل والمديح ،وقد حفل شعره بالمعاني الجديدة والعادات الحضرية ،ونزع منزع الرقة واللين والخفة والطلاوة والجمال الفني ،أما هجاؤه فهو وسيلة للكسب ينم عن عنفوان وطموح وحقد على الحظ ويتسم بالإقذاع المفرط ،وهو من ناحية أخرى شاعر الغزل المادي والعبارة اللينة والموسيقى العذبة ،وامتطى المدح مركباً لنيل العطاء ،وكان مقلداً فيه للأقدمين في المعاني والأسلوب ،لقد كان في شعره جسراً بين القديم والجديد وأول من حاول أن ينزل الشعر إلى الواقع الشعبي والحياة العامة .
«أبو العلاء المعري «»363-449»:ولد بمعرة النعمان ،وفقد بصره في طفولته ،ومع ذلك سعى في طلب العلم أينما وجد ،توجه إلى بغداد ونهل من معين المعارف ،ثم عاد إلى المعرّة ،واعتزل الناس إلى أن توفي ،كان نادرة زمانه ذكاء وحافظة وروحاً ساخرة سوداء ،وثقافة عالية ،ولكنه كان متشائماً لا يرى في الوجود إلا شراً ،وأشهر مؤلفاته الخالدة :(سقط الزند )(اللزوميات )(رسالة الغفران )،وهو في هذه المؤلفات ساخر متهكم ،محلل مبدع ،فيها قصص ووصف ونقد وعلم وفلسفة وتاريخ وتفكير عميق وتركيب حاذق ،وهو رجل ثورة فكرية واجتماعية .
نزيه شاهين ضاحي
المزيد...