سبق لي أن حدّثتكم عن شيء ممّا مرّ بي في إعارتي إلى الجزائر عام 1975، وقد كنتُ أعزّي نفسي وأقول لِأَفترضْ أنني في إقامة جبريّة، وهي إقامة محدّدة وليست مجهولة المدّة ، فما عليّ إلاّ الصبر، وهو الخيار الوحيد النّاجع.
حين اقتربت نهاية العام الدراسي، كنتُ أستحثّ الأيام أن تُسرع أكثر، وإنْ كان رصيدها من أيام حياتي، ففي الحياة الحقّة لاتُحتسب من عمرك إلاّ الأزمنة التي شعرتَ فيها بشيء من تفتّح الرّوح، وعلى هذا القياس تبدو الأعمار غير مايمرّ بنا شئنا أم أبينا.
لم أعد أذكر كيف تصرّفتُ بما كان لديّ من مقتنيات صغيرة بسيطة، كان لابدّ من التخلّص منها، وما أدري ما إذا كانت مثل هذه الذاكرة نعمة أم نقمة، فأنا لا أذكر شيئا من ذلك، وربّما كان ثمّة آليّة ما في أعماقنا تعمل بمعزل عن إدراكنا السطحي، وقد تجد في ذلك تحقيق أمر هو لصالحنا وما نشعر.
ذات جلسة خلوتُ بها إلى نفسي وأنا أطلّ على خليج مدينة «بْجاية» الساحر، خفت من إحساس راودني، وهو أنْ يجذبني مالا أستطيع مقاومته، فأعاود التجربة على مراراتها، لاسيّما وأنّ وزير التربية الجزائريّة، وكان قد دعا أعضاء مؤتمر اتحاد الأدباء العرب الذي عُقد في الجزائر،.. وكنت عضوا فيه، طلبني بالاسم، وقال إنّ أصدقاء من دمشق كلّموه بخصوص شكواي من المنطقة التي أنا فيها، وكان ذلك قبل نهاية العام الدراسي بأشهر قليلة، فوعدني أن يكون تعييني في المكان الذي أختاره في العام المقبل، قلت له بعد شكره:» هذا إنْ عدت»…، خفت من هذا الوعد، وأنا مطلّ على خليج بْجاية، وضمّنت هذا الخوف في نهاية قصيدة « السندباد يخاف السّفر»، من مجموعة « مكابدات ابن زُريق الحمصي»، وقلت:
ياغاليّهْ
لَكمْ أخافُ أنْ يعود لِلّنّوتيّ صوتُهً
فَتَنْشُرُ البحارْ
أمواجَها، ومرّة ثانيةً أعودُ للسّفارْ
لَمْلمتُ النّثار المُبعثر، واحتطتُ، فأنا حين أنوي السفر، أبدأ بإعداد لوازمه بعدّة أيام كيلا أنسى شيئا أراه ضروريًّا لي، ووجدتُ معي مئة فرنك فرنسي، وما أدري كيف ورّطني بشرائه أحد المُعارين القدامى ، وأنا أعلم كم يتشدّد الجزائريون آنذاك في تطبيق القوانين، ويعتبرون إخراج فرنك فرنسي واحد مخالفة، وكنتُ أرتّب مجموعة من الأوراق والدفاتر، والكاتب أيّ كاتب يظنّ، أو يتوهّم أنّ كلّ مايكتبه مهمّ، ولذا يتشبّث بهذه القصاصة، أو بتلك الفكرة، فيحتفظ بها حتى صياغتها، أو حتى يملّ منها، وييأس.
أخذت المئة فرنك ودسستها في باطن مجلّد دفتر بين حُزمة من الدفاتر، لون الجلدة أصفر، وقلت مَن يتنبّه لهذه؟!!
وصلتُ إلى مطار العاصمة الجزائريّة، لم أعد أذكر كيف، كان كلّ مايهمّني أنني خلال بضع ساعات سأكون في مطار دمشق، الشوق يتأكّل مابقي سليما من حُشاشة، وأنا رغم قلّة ماسافرتُ، أكره المطارات والحدود لِما فيها من تعقيدات، وأكره الانتظار فكيف حين يكون مديداً وفي صالات المطار، أو على جانبيّ الحدود، ثمّة شيء يظلّ مستعجِلاً في أعماقي لا أستطيع ضبطه، وحين طلب منّي الدّركيّ المكلَّف أن أفتح الحقيبة التي أحملها في يدي، رأى كومة من الدفاتر والأوراق،فقلّبها لتفقّد ماإذا كان فيها شيء ما، وبدأت ضربات قلبي تتسارع، وندمتُ في وقت لاينفع فيه النّدم، وفجأة مدّ ذلك الدّركيّ يده إلى الدفتر ذي الجلدة الصفراء، ولم يٌقلّب أوراقه، وإنّما مدّ يده إلى حيث وضعت المئة فرنك، وأخرجها قطعة واحدة، لكأنّه هو الذي خبّاها فيه!! فكانت السماء أضيق من خرم إبرة، ياإلهي ماهذه الورطة؟ ولوّح بها بهدوء، فخاطبتُه باللهجة الجزائريّة قائلا:» يبدو أنني وضعتُها ونسيتُها»، نظر في وجهي مرّة أخرى وحدّق قليلا ، ثمّ أعادها إلى حيث كانت، وأومأ لي أن أصعد إلى الطائرة …