زهرة من أقاحي القلب على ضفاف العاصي تحتضر .. صفصافة حبلى بالحزن تتوق الى جذورها .. وتنعي علينا موت أغصانها النضيرة .. زيزفونة ماعادت تنشر عبق أزهارها .. محاصرة بالنفط ومخلفات الآزوت .. سلبينة طوت أحلامها والرعب يحيطها .. سمكة تبحث عن قطرة ماء صافية تحميها من الموت الثقيل .
وامتزج الجمال بالقبح .. والرومانسية بالواقع المر .. والكلمات تخون شاعرها فلا شجرة مورقة على ضفاف العاصي . ولا عشبة ندية تبعث على الحياة .. ولا سمكة حية في النهر .. ليس هذا فحسب بل لاتوجد ضفدعة واحدة يأنس لنقيقها القلب …. وساقية تفور بالأوساخ .. تتصاعد منها أبخرة الفضلات القذرة .. ويرفع العاصي ذراعيه يستنجد باللاشيء .. ولا أحد يعينه ويدخله العناية المشددة ولايقدم له ولو القليل من الأوكسجين .. مع العلم أنه مصاب بجلطة دماغية وقلبية هذه دعوة لجميع الناس .. فليتوقف الكتاب والشعراء عن كتابة القصائد والحفر في الرومانسية والجمال .. وليكتبوا عن نهر العاصي .. وليتوقف باعة الخضار عن بيع خضارهم .. إلا مانبت على ضفاف العاصي .. لإنقاذه .. هذه صرخة مليئة بالألم والحزن .. صرخة لنجدة الحياة المحتضرة .. فهل من مجيب ؟!
حتى بداية الثمانينيات كنا نسبح في نهر العاصي .. وكانت مياهه لا تزال نقية نظيفة .. وكان أجدادنا يحدثون آباءنا أنهم حتى نهاية عام 1969 كانوا يشربون من نهر العاصي ويصيدون الأسماك منه .. أما آباؤنا فيحدثوننا أنهم لم يشربوا من نهر العاصي بسبب تلوثه ولكنهم مازالوا يصطادون الأسماك منه أما نحن فنحدث أبناءنا أننا كنا نسبح في العاصي ولكن لا توجد سمكة واحدة فيه مازلت أذكر خمائل الأشجار النامية على ضفتيه وشجر الصفصاف والحور وعبق الزيزفون ينثال على ضفتيه .. إنه منظر يبعث الروح في الجسد .. ويورق في النفس الجمال والشعور بالطمأنينة .. أن العاصي .. مازال بخير ..
وتتالت السنوات ومضى العمر .. فقام معمل السماد الآزوتي بضخ سمومه في النهر .. فماتت جميع الأسماك وحتى الضفادع والأفاعي !!
ولم نعد نرى دجاجة ماء واحدة .. وانقرض البط النهري نهائياً .. ثم هاهي شركة مصفاة حمص تلقي بنفاياتها في النهر .. لتقتل الأشجار والأزهار والأعشاب والقصب النهري .. والسؤال المطروح .. وربما يكون من الحماقة توجيه هذا السؤال .. ألا تستطيع شركة السماد الآزوتي تحميل نفاياتها في صهاريج خاصة .. ونقلها الى الصحراء أو الفلاة ؟! بدلاً من قتل الثروة السمكية في العاصي ؟! .. ألا تستطيع شركة مصفاة حمص بناء معمل لتنقية مخلفاتها من النفط عوضاً عن تلويث العاصي وقتل جمال الأشجار والثروة النباتية ؟!
العاصي يا أخوتي هو الآن مجرد ساقية قذرة .. لا ترى ضفدعة واحدة تقفز في مياهه .. تكاثفت الطحالب والأشنيات على ضفتيه .. وتنبعث منه رائحة مقززة لكأنه عجوز يحتضر وينتظر الموت النهائي ..فإما أن ننقذه أو فلنطلق عليه طلقة الرحمة لنريحه من هذا العذاب .. وربما نرتاح نحن من عذابنا عليه ..
لماذا نجد أنهار العالم نقية نظيفة من المنبع الى المصب في البحر ولا نجد أنهارنا إلا وقد تلوثت ونضبت مياهها وماتت كل حياة فيها ؟!
ألا يعني موت الأنهار موتنا نحن .. أولا تعني حياة الأنهار حياتنا نحن ؟! ترى من المسؤول عن هذا ؟! نحن جميعاً مسؤولون ولكل منا مسؤولية حول موت وجفاف العاصي .
وإن كان أجدادنا يقولون لآبائنا : ( كنا نشرب من العاصي ) وإن كان آباؤنا يقولون لنا : (كنا نصطاد من العاصي الأسماك ) ونحن نقول لأبنائنا : ( كنا نسبح في العاصي ) فماذا سيقول أولادنا لأحفادنا ؟! ما هي العبارة التي سوف يفخرون بها أمام أحفادهم ؟! بالتأكيد إذا بقي الحال هكذا .. فلن تبقى عبارة عزاء يتفوه بها أحفادنا أمام أبنائهم .. وربما أفضل كلمة سيقولونها .. ( هل تعلمون يا أبناءنا أننا كنا نفتح شيئاً في الجدار اسمه الصنبور .. وكان ينزل منه الماء .. فنشرب ونستحم منه .. ) وهنا سوف يضحك أحفادنا سخرية إذ لن يصدقوا أنه كان هناك شيء في الجدار اسمه الحنفية .. كان آباؤهم يفتحونه .. فينزل منه الماء .. هل تعلمون ماذا يعني هذا ؟! هذا يعني انه لن تبقى ينابيع ولا أنهار .. ولن تبقى نقطة ماء واحدة .. وسوف يشتري أبناؤنا وأحفادنا الماء معلباً .. وسيصبح الماء عملة نادرة .
فهل من متعظ ؟! وهل من مفكر … يفكر معنا ؟!
د. نصر مشعل