أهداني ــ على كرم منه ــ مجموعة من دواوينه الشعرية ، وما كتبه في النقد ، والحقيقة أنني قرأت بكثير من الاستمتاع والتنبه العاليين ما في هذه الكتب من رؤى وأفكار تحتاج التوقف عندها ، ففي هذه المطالعة أنت أمام شاعر وناقد ومؤرّخ في الوقت ذاته ، ولعلّي لا أكون منصفاً إذا غلّبت أحد الجوانب على الآخر ، فالشاعر يحلّق بجناحي الشعر والنقد معاً ، مثلما يكتب السيرة التأريخية للواقع ، ومن هنا تتبدى خصوصية القصيدة لدى الشاعر عبد الكريم الناعم ، مثلما تتمايز بطروحاتها الرؤيوية ، وبما تتناوله من موضوعات ، وفي هذه السهرة التي أجدني فيها محاطاً بهذا الجمال الحزين ، أو الحزن الجميل الذي إن دلَّ على شيء ، فإنما يدلُّ على توق العارف ، وجرح الكاشف ، ومن هذه المعرفة ، وذلك الانكشاف تكون المعاناة أقسى ، وحجم الألم والإحساس به أعظم وأشمل ، وأمام هذا التنوّع المعرفي وجدت نفسي مدفوعاً إلى غير ما كنت أقصد ، فغلّبت الجديد على القديم ، وقاربْت الآني على حساب الماضي ، وهكذا بدأت أكتب في غير ما كنت أرغب فيه ، وأذهب إليه ، وقد قاربت النهاية أو كدت ، وفي هذه الإلماحة ، إنما وددت الإشارة ، لا الإطالة فيما حقه الاستغراق في كثير من جزئياته وتفاصيله ، وهو ما سيكون مجالاً لقراءات أعمل على تصورها غير أني في هذه السهرة وجدت حالي حال من وجد نفسه غارقاً في بحر استهواه اليمُّ ، ولا يجد قارب وقت يُمكّنه من بلوغ الماء ، لأبقى على رمل الشاطىء أتأمل لحظات إشراق زمن يُمكّنني من بلوغ نور الفتنة ، وشعاع الدهشة التي تتملكك ، وأنت تقرأ رجلاً أصبح ذاكرة عصر ، وشاهد مرحلة هي بلا شكٍّ كانت في خواتيمها أقسى ما مرَّ على الرجل عبر مسيرته الحياتية .
وإني وإن كنت بدأت في هذا السرد ، فلأعبر عن غبطة الطفل وفرحه على ندرة ما يبهج النفس في هذا الزمن البائس ــ بما وجدت لدى الشاعر سواء ما كان على مستوى لقائي الشخصي أم على مستوى لقائي من خلال ما كتبه ، فعلى المستوى الأول أفرحني أنَّ الرجل يتمتع بصحة جيدة ، وتوقّد ذهن مازال يحتفظ بأدق تفاصيل الماضي ، وحضور قامة مازالت تذكرنا بآخر النسور التي تأبى إلا أن تظلَّ أمينة على تراثها وإنسانية الإنسان فيها ، فيما يبقى المستوى الآخر مجال انشغال بدراسات أعمل على إنجازها فيما يجب أن يكون العمل فيه ، وهنا أودُّ أن ألفت إلى ضرورة أن يُسلط طلبتنا الضوء على شعرائنا الذين من الواجب أن تكون أشعارهم مجال الدرس والتحليل ، فما قدّموه من إبداع يستحق التناول والبحث والدراسة ، وهذا واجب الزملاء الدكاترة في الجامعة ، إذ هم البوصلة التي تُوجّه الطلبة في الدراسات العليا إلى ضرورة دراسة شعرائنا المعاصرين ، وأن نشير إلى إبداعهم ، وهو أقلُّ ما يُمكن أن يُقدّم لهم في ظلّ واقع سادتْ فيه شخصنة العلاقات ، والأهواء الذاتية على الحقيقة ، فاختفى الحقيقي ، وظهر المُزيف ، وراج الزبد على حساب النافع المُفيد ، إنها دعوةُ إلى وضع الأمور في موازينها الصحيحة ، فما أجدرنا أن نحتفي بالأديب الحقيقي الذي هو سمت الوعي نحو ثالوث : الحقّ والخير والجمال .
د. وليد العرفي