حين كنتُ أعبر الطريق الواصل بين كرم الشامي، ومدرسة «الخالديّة الأهليّة» الابتدائيّة، والتي كان موقعها في نهاية حيّ « باب التركمان» من جهة جنوبه الشرقي، وعلى أوّل حدود حيّ» ضهر المغارة»، زمن أرسلني المرحوم والدي إلى حمص للدراسة، لعدم وجود مدارس في الأرياف في ذلك الزمن، أي عام 1947،.. كنتُ أمرّ قريباً من قلعة حمص التي بدتْ لي شاهقة آنذاك، ولم يكن الصعود إليها مسموحاً إلاّ في أحد «خَمسانات» حمص المشهورة، وذات يوم مُثلج أخذنا أستاذنا المرحوم ماهر عيون السّود في رحلة باتّجاه القلعة، وصعدْنا في صفّين نظاميّين، والتُقطتْ لنا صور ونحن في القلعة، ضاعتْ مني فيما بعد ضمن محفظة صغيرة، أتمنّى الآن لو كان بين يدي شيء منها،وكانت أوّل مرّة يُتاح لي فيها النّظر إلى حمص من مكان عالٍ مُشرف عليها، وحين أُقارنُ مابقي في الذاكرة من ذلك المَشهد يُخيّل لي أنّني رأيت قرية كبيرة، قياسا إلى ماأصبحت عليه المدينة اليوم.
هذه القلعة كانت، ككلّ القلاع، مُحاطة بخندق، يُملأ بالماء حين يهاجمها عدوّ، هذا الخندق كان فيه من الجهة الجنوبيّة للقلعة مَغارة لم تُكتشف كلّها، وحُكيت عنها حكايا ربّما كانت من نسج الخيال، وقد رُدِم هذا الخندق الأثريّ نتيجة قرار جاهل بقيمة الآثار، فخسرنا أثراً وما ربحنا حديقة بالمعنى الدقيق، الآثار، في عُرف مَن يُدركون قيمتها لاتقدّر بثمن لأنّها شاهد من شواهد التاريخ على مرحلة ما، وكم أُزيلت في حمص من آثار لاسيّما (السيباطات) ، وبعض الدّور التي تُشكّل نموذجا حيّاً، وجميلا،.. أُزيلت لصالح تجّار العقارات الذين لايعرفون قيمة لشيء إلاّ قيمة ما يدخل جيوبهم من أموال،وقد نُشر العديد من المقالات، آنذاك، تحذّر، وتُبيّن، بيد أنّ قوّة المال كانت أكبر من قوّة الكلمة النّظيفة، وذلك ملمَح من ملامح التخلّف، ولا ندري ماالذي كان يدور في الخفاء، ولا شكّ أنّها صفقات بين مَن يريد الاستغلال، و..صاحب الموقع الذي يستطيع بتوقيع منه أن يفتح لهم أبواب النّهب والثراء.
هذه القلعة، بعد خمسين عاماً تقريبا من زيارتها الأولى، كان عليّ أن أصعد إليها في الأسبوع مرّتين لتسجيل برنامج إذاعي كان اسمه في البداية « هنا حمص»، ثمّ تغيّر إلى «آفاق»، وكنتُ أُعِدُّ موادّه، وكانت مدّته على مدار مُعظم تلك السنوات نصف ساعة، وفي سنواته الأخيرة اختُصِرت مدّته للعشرين دقيقة، وموادّه حصرتُها في تاريخ حمص، القديم والحديث، وعاداتها، وتقاليدها، وغنائها، و» تعليلاتها» والذي كان كلّه بأصوات مطربين حمامصة، عبد الواحد الشاويش، ممدوح الشلبي، عبد الوهاب الفصيح، محمّد العباس أبو مهدي، ياسر السيّد، برهان الصباغ ، وسمير عماري،وعيسى فياض، وعلياء عيسى، وليندا بيطار، وآخرين لايتّسع المجال لذكرهم، كما حرصت على أن يكون للفرق الغنائيّة، والنوادي الموسيقيّة حضورها، وكانت حمص غنيّة بذلك، وتابعنا النشاطات الثقافيّة، وكان يقوم بالمقابلات زميلنا محمد الفهد، وكان في الهندسة الصوتيّة طلحة مهرات، وكان للغناء الريفي حُضوره وقد كنتُ أعرف أنّ ثمّة مَن يتابع ذلك البرنامج لسماع ذلك الغناء، لأنّ غناءنا الريفيّ مغيّب في الإعلام، كان عليّ أن أصعد إلى أعلى هذه القلعة وأنا أحمل حقيبة فيها أشرطة الكاسيت اللازمة للإذاعة، وكنتُ أحضّرها أيضا مع اختيار الفواصل الغنائيّة، والموسيقيّة، والآن أدرك كم كان العمل شاقّا ومُرهِقا، كنتُ غارقا فيه لأنني أحببته، وأحبّه الناس، وكنتَ في موعد إذاعة البرنامج يلفت سمعك أنّ الكثيرين في محالّهم من أهل حمص يستمعون إليه.
الصديق المرحوم الشاعر ممدوح عدوان قال لي إنّه لايفوّت حلقة من حلقات هذا البرنامج، وقد كتب مقالة عنه نشرها في صحيفة القدس اللندنيّة آنذاك، مشيدا به.
الآن أمرّ بجانب هذه القلعة وأنا في سيارة، وأنظر إليها، فآسى لأنّي لم أعد قادراً على صعود تلك المسافة،ثمانية عشرة عاما وستة أشهر كان عمر ذلك البرنامج، فيا للزمن..
عبد الكريم النّاعم