زاويتي هذه مخصّصة لشخصيّة بعينها، وكانت شخصيّة عامّة بصيغة ما، وفيها مايستحقّ أن يُذكر بما فيه، وربّما قصّرنا في حقّه وحقّ غيره من الذين انحازوا للإبداع الجميل، في واحد من الفنون،
أحمد شريفي اسم يتذكّره الكثيرون من المهتمّين من أبناء حمص، فقد كان ضابطا في القوّات المسلّحة، سكن حمص ، وتزوّج من إحدى بناتها، وله حياة حافلة، أرّخ لها ابنه الروائي عادل شريفي في روايته» حبّ في زمن الثورة»، وهي رواية جديرة بالقراءة، جذّابة حبكة، وتسلسل أحداث ، وتاريخ لما قبل ثورة الثامن من آذار 1963 وما تلاها،
بعد أن تقاعد من العمل كضابط سكن واستقرّ في حمص، وكوّن أسرته فيها، وسكن طويلا في حيّ « باب تدمر»، وفي السنوات الأخيرة من حياته سكن حيّ « عكرمة الجديدة’»، ممّا أتاح لنا التواصل أكثر، بحكم تجاور حيّيْنا.
أوّل ماتعرّفت على أبي عماد ،عرّفني عليه عازف العود فرحان الصبّاغ، وكان له محلّ تسجيلات كاسيت في منتصف شارع الحميديّة، المكان نظيف، بل يلمع، صُفّت فيه الأشرطة بعناية وذوق،انتقل بعدها إلى محلّ قبْو شرقيّ مقهى طليْطلة» التّوليدو»، وكان محلّه ملتقى العديد من الفنّانين، ومحبّي الطرب الأصيل، وقد تمكّن من تأسيس مكتبة أشرطة نادرة، وأحياناً يُحجم عن نسخ شريط نادر إلاّ لمن يستحقّه، ضنّاً به، وممّا سمعتُه منه أنّ المطرب الحمصي في زمنه عبد الرحمن الزيّات، معاصر الأسطورة الحمصيّة « نجيب زين الدّين» الذي لم يترك أيّ تسجيل، ورفض أن يسجّل، بسبب قصّة، قد نمرّعليها في زاوية أخرى، .. الزيات لم يترك أثراً مسجَّلا إلاّ أسطوانة « زفْت»، ذُكرت له عند أحد الهواة، فأخذها منه، وقد علاها الغبار، وشكّل طبقة فيها، فنقَعَها في حوض الاستحمام، وغمرها بمواد تزيل ماعلق بها، وحوّلها إلى شريط كاسيت، تداولته أيدي محبّي الطرب الأصيل.
كان أحمد شريفي أنيقا في كلّ شيء، وخطّاطا، أجهزة التسجيل في بيته وفي محلّه من أرقى الأجهزة المعروفة آنذاك، وقد امتلك مكتبة موسيقيّة نادرة تضمّ أروع ماعرفه الغناء العربي، ولا سيّما « الستّ أم كلثوم»، وكان سنباطيّ الهوى في ميوله.
قال لي ذات مرّة أنّ أبناءه متفوّقون في دراستهم، وهو ، كأب لو خُيّر بين أن يكون ابنه طبيبا أو فنّانا فإنّه يختار الفنّ على الطبّ، ولقد سُرَّ بأولاده، فالدكتور في جراحة العظام عصام شريفي، والمقيم في فرنسا منذ زمن طويل واحد من أهمّ الملحّنين الذين قدّموا ألحانهم في حمص، وفي أوروبا، وفي دمشق، وهو عازف متميّز على آلة العود، وابنه الشهيد العميد الركن المجاز « عمّار» كان من البارعين في العزف على آلة القانون، وابنه الأصغر « عادل» روائي» أصدر عددا من الروايات، ويقيم حاليّا في اللاذقية.
حين بدأ الكمبيوتر يدخل البيوت، التقط أحمد شريفي الإشارة، وأدرك مايعنيه، فنسخَ مكتبته، فيما أعلم، كلّها على جهاز الكمبيوتر، ولا أعرف ماحلّ بتلك المكتبة النّادرة.
هذا الرجل الذي وُلد في إحدى قرى اللاذقية، وسكن في حمص، وتوفّيَ فيها، بعد أن حقّقَ حضوراً نوعيّا، وكانت له صداقات واسعة مع الوسط الحمصي الفنّيّ، حمص المدينة المفتوحة على كلّ الجهات، كانت تُسمّى أمّ الغريب، إذ يستطيع أيّ قادم إليها، آنذاك، أن يُقيم صداقات فيها، وما يلبث أن يجد نفسه واحداً من أبنائها، تلك حمص التي نفخ فيها الوهّابيّون وجماعة الأخوان المسلمين نار الحقد ، فبدت في بعض مقاطعها، وكأنّها ليست المدينة التي عرفناها،
أنا أراهنُ على التفاؤل، وعلى ضرورة أن تستعيد حمص نقاءها، وطيبتها، وأن تطرد ذلك الشبح الذي نفخ فيه الصهاينة، والأمريكان، وبني سعود وأتباعهم مانفخوا،
سلاما لحمص التي عرفْنا، وعلى أمل الشفاء ممّا لحق بها من جراح..
عبد الكريم النّاعم