سأعود إلى شيء ممّا بقيَ من عوالم الطفولة في الذاكرة، فبعد هذا العمر تتراكم الأحداث،ويزيل بعضها بعضا، وتبقى بعض ذكريات الطفولة مكان استراحة لنا في الاسترجاع، أو في أحلام اليقظة، وأنا واثق أنّ طفولة معظمنا لم تكن سعيدة، بيد أنّ ثمّة شيئا ما فينا يزيّن لنا بعض مقاطعها، ويلوّنها بألوان زاهية، ربّما لأنّ النفس بحاجة إلى مثل هذه الواحة في قيلولاته.
في منتصف الثمانينات، كما أخمّن، كانت مُعدّة برامج تلفزيونيّة، كنيتها” دريباتي”، رحمها الله، قد رتّبت الأمر لإجراء حوار تلفزيوني ، يرصد شيئا من حياتي، وعهدت بالإخراج لابني “ عقبة”، وأراد ابني أن نذهب إلى مواقع الطفولة في تلك القرية البائسة، وإلى الحارة التي كان بيتنا فيها، وتسمّى “ الحارة الفوقانيّة”، أمّا “ الحارة التحتانيّة” والتي كانت تشكّل حجم ثلثي القرية فقد غمرتْها مياه سدّ الرستن، لقد اعترفتُ سابقا بأنني حين أمرّ بأرض هذه القرية التي انقطعت علاقة التواصل معها، منذ أكثر من ستين عاماً، .. حين أدخل أرضها ينتابني شيء صعب وصْفه، هو بين الحنين، والحلم، والرّفض، وفوران تلك الأحاسيس المنسيّة، .. تطفو بجزئياتها، وربّما شعرتُ ذات مرور بها أنّ دُواراً شفيفاً قد أصابني، أَلْتَفِتُ إلى حيث كان النّهر،.. فأكاد أرى نفسي أسبح مع رفاق الطفولة، أحوّل وجهي إلى ناحية أخرى فأرى الأماكن التي كنّا ننصب فيها “ الفخاخ”، أغمض عينيّ قليلا فأرى كيف كنتُ، وأنا في الخامسة من عمري، أتشبّث بالذهاب مع راعي الغنم “ أحمد “ لأنّني أجد في البراري راحة ومتعة ، حتى لكأنّ شيئا كان نائما، بعيدا في النفس، يتنبّأ أنّني سوف أُحرَم طويلا من تلك الفضاءات، …حين ذهب طاقم التصوير، واقتربْنا من أطلال الدار التي كانت لنا، أخذتْني تلك الحالة، فتماسكتُ كيلا أُفسد العمل.
بالمناسبة في ذلك الزمن كان الفلاّح يبني داره بجهده وماله، وتؤول ملكيّتها لمالك الأرض،
ياإلهي!! هذا “ زابوق” “ بيت الديري” كان أعرض بكثير ممّا أراه الآن، وجدران البيوت كانت أعلى، والمسافة بين بيتنا وبين بيت “ عَدّوج”، والتي كنت أراها واسعة أركض فيها وألعب، هذه المسافة بدت مُختَصَرة حتى التّقزيم، لقد كانت القرية الموجودة على الأرض هي غير تلك التي تسكن الذّاكرة، بقيتُ يومين بعد ذلك وأنا أستعيد توازن نفسي، لأخلص ممّا علق بها من لطافات التذكر، ومن كثافات المثول.
في اليوم الثاني كان علينا أن نصوّر في حمص، وأن نذهب إلى المكان الذي كانت فيه “ مدرسة الخالديّة الأهليّة”، وكنت أمرّ في طريقي إلى منتصف المدينة، أو أتعمّد المرور قرب هذه المدرسة، فأنظر إلى حيث كانت عن بُعد مايقرب من عشرين مترا في زقاق مسدود، محاط بأبنية مشيدة من حجر البازلت، وهذه المدرسة كانت سابقا بيتا لأحد أثرياء حمص، تجاور مسجد” الحسيني”، إنْ لم تخنّي الذاكرة، وكان بين المدرسة والجامع باب صغير، والدار مبنيّة على الطراز العربيّ المعروف، وذات طابقين، وفسحة، وأرجّح أنّ الذي أمر ببنائها هو الذي طلب أن يُبنى ذلك المسجد ملاصقا لها.
حين دخلت إلى ماكان يُسمّى مدرسة أصابني دوار من الألم الواخز، فالباحة مملوءة بالأوساخ، والجدران ملطّخة بدبَق السكّر، فقد أستأجرها مَن جعل منها معملا للسكاكر، على الرّغم من أنّها، فيما أعرف، مصنّفة أنّها ممّا تبقّى في حمص من آثار،!!
بقيتُ أكثر من يومين وأنا أعالج نفسي من ذلك الدويّ الذي أثير في تلك الأعماق، فقد كنتُ مسكوناً بخدَر في الرأس، وأنّات، وحنينا لما لايُستعاد….
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@gmail.com