في أواخر سبعينات القرن الماضي، نُقِل من التّعليم ، وعيِّن رئيساً لتحرير جريدة العروبة في حمص، وكانت له أحلامه، ورؤاه، وطموحاته، وعلى رأسها أن يجعل من الصحيفة المحليّة صحيفة تسعى لتخطّي محلّيّتها، وذلك من خلال استقطاب الأقلام المعروفة من داخل حمص ومن خارجها، واستطاع خلال فترة قصيرة أن يُحدِث تغييرا ملحوظاً، ولمّا كانت الجريدة لاتلبّي تطلّعاته، فقد أخذ الموافقة على إصدار ملحق ثقافيّ للعروبة، وكان يصدر مُلحق باسم صحيفة الثورة في دمشق، لعب دوراً كبيرا في تنشيط الحركة الثقافيّة والفكريّة، وكتب فيه كتّاب مشهورون في سوريّة، وتتبّعاً لذلك الطموح، وبحكم علاقاته الطيّبة مع أدباء حمص، ومثقّفيها، وفنّانيها، ومُبدعيها، صدر ملحق العروبة الثقافي، وعسى ألاّ أكون قد نسيت التسمية فهاقد مضى عليها قرابة الأربعين عاما ونيّفاً، ولم يقصر الكتابة والمساهمة فيه على أبناء حمص وحدهم، بل استكتب، بحكم معارفه وصداقته على مستوى القطر عدداً من الأسماء الأدبيّة المعروفة آنذاك، وكان يُرسل لهم تعويض استكتابهم إلى عناوينهم في المدن التي يقطنون فيها، وقد استعان ببعض الفنّانين التشكيليّين لإخراج أعداد الملحق، وصارت لذلك الملحق سمْعته الأدبيّة في أوساط المثقّفين.
في أواخر السبعينات، وأوائل الثمانينات بدأتْ اغتيالات غامضة في البداية، في سوريّة، واختاروا الأسماء ذات الحضور العلمي، والثقافي، والاجتماعي، وكان خياراً أوّليا، لأنّهم فيما بعد لم يتوانوا عن اغتيال بائعين على البسطة، وتكشّف بعد زمن من المتابعات الأمنيّة أنّ الذين يقومون بهذه الاغتيالات هم عصابة « الاخوان المسلمون»، وكانت المرّة الثانية التي يوقدون فيها هذه الحرائق، إذ قاموا بعمليّات شغب، وقتل، وإثارة فتنة في عام 1964، وعرفت مدينة حمص بعض ذلك الحراك الدمويّ، ومن عايشوا تلك الفترة لاشكّ أنّهم يذكرونها.
حين تكشّف الغبار الدمويّ عن الجهة التي تغتال، وعُلِم مَن يهدّدون تحديداً بقصد تحريك الفتنة الطائفيّة المذهبيّة، صار بعضهم يأخذ احتياطاته بقدر المستطاع، وكان الخوف حقيقيّا، فقد اغتالوا قادة عسكريّين رغم وجود مرافَقة معهم، فماذا يفعل النّاس الذين يتحرّك معظمهم على قدميه، في تنقّلاته، وفي ذهابه إلى وظيفته، وقضاء حاجاته،؟!!
قلت له ذات مرّة محذّرا:» أخي أبو وضَاح، أنت رأس الاعلام في هذه المدينة، وكما ترى من سياق الأمور، فأنت مُستهدَف، فخذْ حذرك جيّداً، فهؤلاء غدّارون، لئيمون»
قال بما يُشبه التسليم للأقدار:» وماذا أستطيع أن أفعل؟!! أنا أتحرّك بواسطة هذه السيّارة، ولا بدّ من المجيء للعمل، وإصدار الجريدة».
قلت:» هل لديك سلاح تستطيع الدّفاع به عن نفسك»؟!!
قال:» لديّ مسدّس»، ومدّ يده إلى جيب السيارة، وأخرج مسدّسا موضوعا في غلاف جلديّ»،
قلت:» بربّك أهذه طريقة ؟!! ريثما تُخرج المسدّس، وتُلقّمه، يكون كلّ شيء قد انتهى»،
قال:» أصارحك ؟ إنّني أفضّل ألف مرّة أنْ أُقتل مظلوماً على أن أكون ظالما»،
ذات ضحى، وكنتُ في مكتبي، كمدير لنادي المعلّمين، في الشارع الجنوبيّ الموازي لشارع الغوطة، رنّ جرس الهاتف ، رفعتُ السمّاعة، وقلت :» ألو»، ففاجأني صوت يبكي بصوت عال، لصديق لم أعد أتذكّر اسمه، وقال لي وهو ينتحب:» لقد قتلوا أبو وضاح»، وأغلق السمّاعة، لعدّة دقائق أحسستُ أنّني قد ضيّعت الاتجاهات، وقد خرجتْ في جنازته جموع حاشدة.
أقيم لشهيدنا حفل أربعين في صالة الكندي، وكان حشدا مهيبا، وألقيتُ قصيدة طويلة رثيته فيها، وهي بعنوان» من الكلام إلى الدم»، ونُشرت فيما بعد في مجموعتي « عنود» الصادرة عن اتحادالكتاب العرب بدمشق 1980،
رحم الله أبا وضّاح الشهيد فائق محمّد، الذي سمّيت إحدى المدارس باسمه، وأنا حين أعود بالذاكرة إلى بعض المقاطع فليس نكْأً للجراح، بل لأخذ العبرة لمن يريدها، فها نحن منذ تسع سنوات نقاتل ذلك الفكر الظلامي الظالم، الذي أوقد نارا كان من حصادها ذلك الخراب.
رحم الله شهداءنا، وأمدّنا بنصر منه لنتجاوز مناطق الحرائق المادية والمعنويّة.
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@gmail.com