تحضر المرأة في شعر عبد الكريم وفق مستويات عدة مثلما تحضر في نمطيات مختلفة تمليها حضور الذات وفق وعيها بالآخر ، وفي هذه المقاربة سنكشف عن أشكال حضور المرأة في شعر الناعم وفق ثنائية المرأة : الروح / المرأة الجسد ، كما تبدت لنا في ديوانه «آفاق الانكشاف النمطي الأول» وهو ما يتجلى في المرأة / الجسد التي تتبدى في قصيدة : (زمن للتفاح)
يتجلى حضور المرأة في هذه القصيدة من العنوان الذي لا يخفي دلالة إحالته على المرأة بما في رمزية التفاح من إيحاءات عشقية وحمولات دلالية تكشف عن علاقة الرجل بالمرأة وفق
ثنائية الرفض والممانعة عبر استشفاف حلمي لإمكانية بلوغ الرغبات الحسية الدفينة القابعة في أعماق الروح المتلهفة للحظة لقاء :
تهطَّلَ سربٌ منَ الياسمينِ على ماءِ
روحي فحنّتْ غصونُ
يبدو الاستهلال مكتنزا بدلالات الرغبة التائقة للقاء المنتظر ، من خلال انزياحات الدلالة للفعل ومفارقتها مصاحباتها اللغوية ، فالفعل : (تهطَّل ) يمسي للزهر ،كما أنه جاء من حيث الصيغة الصرفية على وزن تفعَّل ما يشير إلى المبالغة بهدف إكثار فعل الهطل ، وهو هنا الياسمين فيما الماء هو المستقبل لذلك الهطل ما يفيد بتغيير على مستوى القدرة فالياسمين هو الهاطل لا الماء وفعل هطوله هو الذي يحقق فعل الحياة لا الماء الذي يبدو هنا عنصراً يحتاج لما يبعث فيه الحياة ، فثمة انزياح على مستوى الحدث ،
وعلى مستوى الجمالية الشعرية التي غيرت في مواقعها الإسنادية ما أضفى على المشهد حالة من الحركة الواثبة عبر تصدر الأفعال للأشطر الشطرية ، إذ نلاحظ تعاقب سلسلة من الأبنية الفعلية التي جاءت متساوقة مع الحدث ، وقد تواترت بين زمني الماضي والحاضر تهطل ، تمدد ، زقزق ، تلفت تنسم ، ألق ، تسابق قامت ، يضيق ، يندى ، يفور ، يفاتح ، تراه، تميل ، يغمغم ، تطفو ، تقسو ، يلين ، تروح ، تمثل القصيدة مشهداً احتفائياً بحالة الحضور الأنثوي سواء أكان هذا الحضور حقيقياً أ م حضوراً تخيلياً ، فإنه على المستوى التشكيل البنائي يبدو لنا حضوراً حقيقياً يعيشه الشاعر في تفاصيل ودقائق تكشف عن ذلك المشهد الذي يبنى على فعل استدعاء مستذكر آية ذلك بدء السرد بالاعتماد على فعل التداعي القائم على استدعاء الزمن الماضي الذي استحضر الشاعر فيه حالة من حالات التوق لأنثاه وقد استدعى ذلك الاستدعاء توالي الأفعال التي جاءت في الزمن الماضي فيما يبدو طغيان الفعل المضارع فيما بعد ليشير إلى بلوغ الحدث واكتمال المشهد بلقاء العاشقين ويبدو التوق للجسد متجاوزاً دلالته الحقيقة فالشاعر الناعم لا يرى في المرأة الجسد وحسب بل نجده يتغلغل في ذاته من خلال استحضاره إياها فالفعل الحدثي الحاصل من خلال اللقاء يبدو فعلاً فرضياً في ختام المشهد الذي ينداح فيه الشاعر في حالة من وعي الحقيقة ولا وعي الحدث وكأنه يعيش طقوسه العشقية وفق نواميس هواه المتفرد فنجد لديه لذة الاحتراق وقد تفشت في كل مسامات جسده وروحه المنهمكة فيما هو أبعد من حدود الجسد وأقرب إلى ما في الروح من معان بقيت عالقة في عوالم الشاعر التي يتفيأ ظلالها فنجد الشاعر حبيس ثنائية عقل وجنون واستحضار مشهد أنثى يتعانق فيها الممكن والمستحيل في آن معاً ، وتبدو الدلالة الحسية من خلال الصيغتين الفعلية والاسمية واضحة في القصيدة فمن الأفعال نجد : تمدد ، فار ، أطلق ، تنسم ، قام ، يضيق ، يندى ، يفور ، يفاتح ، ومن دلالة التراكيب الاسمية وليس بخاف دلالات التوق لتلك الأنثى من خلال الألفاظ المعبرة التي يبلغ فيها المدى ذروته في إعلان الفعل الصريح من خلال دلالاته الكاشفة عن حقيقة واقعة لا فكرة عابرة في خيال الشاعر يقول :
فراشٌ هنا منْ نضارٍ وجمر
على مدّ هذي السَّواقي
وقدْ أطلقتْها طيورُ التَّلظّي
أمِ الحلمُ آنَ يجيءُ الرَّبيعُ
يُفاتحُ هذي الورود
ففي كلّ حنوةِ خصرٍ
بُغامٌ مبينُ
ثمة تعبير حسي يتجلى من خلال التركيب ففي كل حنوة خصر بغام مبين وعلى صعيد تنامي الحدث يبدو الفعل مكتنزاً بدلالاته الحسية يقول:
يفورُ تراهُ ُقليلاً بعينينِ منْ حظوةٍ واشْتهاءٍ
يغمغم تطفو الأزاهير
تقسو على دعة في النداء الخفي
يلينُ
تروحُ إلى دُغلةٍ
للغصونِ انبهارُ شميمِ خزامى الغصونِ
في ختام القصيدة يستحضر الشاعر كل أسباب التجلي والخفاء فهي تظهر وتبين من خلال دلالات ألفاظ تشير إلى الحب بين الشاعر وأنثاه ، كما يتجلّى من خلال حسية الصورة التشبيهية التي تدخل عنصراً بانياً من عناصر إتمام معمارية المشهد العام للقاء يقول :
كما التفَّ غصنٌ بآخرَ
هذا التئامُ الشَّواطىء بعدَ انشطارِ سرابٍ
ليكون الحدث الظني مفارقة الختام التي تكشف عن توحد الشاعر في الفكرة التي تتحول إلى أنثاه ، فيجد القارىء نفسه أمام المرأة الفكرة ، لا فكرة المرأة الحقيقية .
حضور المرأة الروح
تتبدّى في قصيدة : ( ذروة) دلالة المشهد من خلال حضور المرأة الروح الذي يكشف عنه فعل حركي يأتي في نهاية القصيدة الذي يُعيد إلى العتبة النصية الأولى التي جاءت في العنوان عبر حركة التفاف دائرة ، اتخذ الشاعر منها صومعته في التعبير عن حضور المرأة الجسد في هذه القصيدة ، فالعنوان) ذروة( يُحيل على حلم الشاعر الذي بلغ منتهاه مع حضور المرأة التي تبدَّت في ختام القصيدة عبر حركة ملامسة لشعره اجتاحت الشاعر العاشق، لتنعكس تلك الفرحة ليس على العالم الداخلي للشاعر وحسب، بل لتكون فرحة عارمة تشمل العالم الكوني كله ، وبهذا البعد يبدو أثر فعل حضور المرأة في المديين الجسدي والنفسي للشاعر الذي جعل من فعلها الحركي المتمثل في ملامسة يدها شعره سعادة تغمر العالم ، تفتتح القصيدة بألفاظ دالة على السعادة التي تتبدّى من العنوان الذي يشكل المقولة الدلالية العامة التي تندرج تحتها سلسلة من المتراصفات اللفظية، لتشكّل عالم
الشاعر العشقي ، إنها الواحة التي يلتقي فيها الشاعر بمن يحب ، فمنذ السطر الأول يبدو الفعل
متحققا عبر المشهد المرسوم في لوحة الحب فالمكان
: شجرٌ يفتحُ أذرعَهُ لطيورِ الوجد
غيمٌ ينشرُ أجملَ ما في كتبِ العشقِ
ويقرئُها لصباحِ الورد
بحرٌ يكتبُ في أشرعتي
إنَّا أعطيناكَ الماء
يبدو هذا البدء في القصيدة قصيدة مستقلة بذاتها ، إذ يمكن الانتهاء عند إنا أعطيناك الماء وما تشير إليه دلالة الماء هنا من معنى رامز ودلالة حاملة معنى الحياة التي جاءت نتيجة لحضور مسببها، وهو الأنثى مع ملاحظة انشغال المشهد كله بدلالات الأفعال يفتح ينشر يقرأ يكتب وكلها أفعال تعبر عن الحركة المستمرة في الزمن فالفعل يفتح يفيد الدخول فيما هو جديد وينشر يحيل على معنى الكثرة والانتشار فيما ترمز أفعال يقرأ ويكتب إلى فعل الإبداع وهو من مستلزمات رسم المشهد والتعبير عنه فكل فكرة تظل كامنة ما لم يعبر عنها بفعل كتابي وحدث قرائي غير أن الشاعر لا يكتفي بحصوله على هذا الإقرار بأخذه الماء بل ثمة أبعاد أخرى يحاول الشاعر أن يصل إليها :
عبق من وجع عشقي
حالة صفو
أسقط قلبي لائحة الحلك الربداء
وهذا التوق لبلوغ تلك الحالة تدفع بالشاعر إلى فعل الاستعجال والسير إلى مبتغاه الذي لا تضل بوصلته سمت العبور إليه ، وهو ينظر بعين القلب إلى إنجاز ذلك الهدف ويسير إليه بالقلب فنجد الشاعر يغير بهدف هذا الاستعجال من أسلوبه التعبيري عبر الالتفات إلى صيغة الأمر الذي يأتي بصورة إلحاح وإصرار تؤكده دلالة تكرار الصيغة الأمرية يقول :
هيَّا أو أنَّ العالم كان شفيفاً
طلقاً وحنوناً
هيَّا أقداحاً ونبيذاً
صاح تعالَ حبيبي منذُ زمانٍ
لمْ نتفاغمْ
جاءتْ سيدةُ الشَّفقِ الملتوت
بنارِ التَّوقِ حالةَ ذوق
تعالَ حبيبي منذُ زمانٍ
لمْ نتفاغمْ
لمسَتْ شعري ازدهرَ العالمْ فالمشهد الموصوف يعبق بأجواء السعاد ، فالنبيذ والأقداح والحب والدعوة من الحبيبة التي عبرت عن رغبة في المحبوب ، وهذا ما يضفي على السعادة الداخلية فرحاً آخر لما يمثله من رغبة في أن يكون العاشق معشوقاً في الآن نفسه وهو ما عبر عنه تكرار الدعوة التي جاءت مكتنزة بدلالة الشوق الدفين للقاء متجدد ، ما يعني علاقة حب مستدامة يعمد الشاعر إلى استعادة جماليتها من خلال تأكيده ذلك الوله المتقد والمتجدد بين الحبيبين بما تحمله دلالة الفعل نتفاغم من رمزية على العطشين الحسي والنفسي والفكري بين كل من طرفي اللقاء المشهد الذي بلغ السعادة في رسم إطاره المكاني ، مثلما كان ذروة في اكتناز طاقاته الجمالية عبر تقنياته الأسلوبية التي تنوعت بين التكرار والاقتباس والالتفات والتدوير ، لتكون القصيدة المشهدية التي تعبر عن الطاقة الإبداعية التي يمتلكها الشاعر الفنان، فكيف إذا كان ذلك الشاعر عاشقاً يرسم بريشة القلب ويلون بخطوط الإحساس إطار لوحته المشهد ؟!.
د. وليد العرفي