في عام 1948 تعرّفْنا على الفلسطينيّين الذين هجّرهم الصهاينة من وطنهم ، بدعم بريطاني، وبتآمر عدد من “ حكّام العرب” آنذاك، وكانوا يمرّون بتلك القرية، عبر القطار، وأهل تلك القرية، على فقرهم، كانوا يطبخون مابين أيديهم، ويخبزون، ويخرجون لملاقاة أخوتهم اللاّجئين، وفي تلك المعركة التي دارت بين بعض الجيوش العربيّة والعدو الصهيوني، استُشهد أوّل مقاتل من أبنائها الشهيد أحمد رحّال، وحين يُجرى عرض لعيد الشهداء، وتمرّ المدرّعات، كنّا ننتظر المدرّعة التي حملت اسم ذلك الشهيد، في تلك الأيام، أمّا اليوم ففي كلّ بيت شهيد، أو أكثر، بعد هذا الغزو الصهيو أمريكي الأعرابي.
بعد سنتين أو أقلّ من ذلك التاريخ كنتُ وابنا عمّتي لأمر ما في “ باب السوق”، وتشاجرتُ أنا وأحدهما، واشتبكنا بالأيدي، فنهض أحد التّجّار من دكّانه، وفصل بيننا، ونظر إلى ثيابنا وهيئاتنا فقال :” إنتو فلسطينيّة ، لم نردّ بل غادرنا دون كلام، فكان أوّل ريح فلسطينيّ يعلَق بي، باكراً،
-قبل نكسة حزيران 1967 استطاع إعلام المقاومة الفلسطينية أن يرفع من معنويّات الكثيرين، وأنا منهم، وفي البال فيتنام، وثورة الجزائر، فكتب معظم الشعراء العرب، وأنا منهم ماكتبوا لفلسطين، وللأمّة، وللقضيّة، ولقد اكتشفْنا، ولكنْ بعد فوات سنوات مديدة، أنّ إمكانات الإعلام الفلسطيني كانت أكبر من قدرته القتاليّة بكثير، وأنّ تفاؤلنا على نظافة توجّهه كان أكبر بكثير ممّا تكشّفتْ عنه الأحداث المتتالية، في الأردن، وفي لبنان، وأخيرا في سوريّة.
في الغزو الأخير الذي تعرّضت له سوريّة، شارك فيه، للأسف، فصيل فلسطينيّ ذو مرجعيّة أخوانيّة.
-في عام 1973 كنّا في تونس في مؤتمر للأدباء العرب، و ضمن نشاطاته مهرجان شعريّ، وبعد يومين من وصولنا جاء أحد أخوتنا التّوانسة وقال لي:” هناك شاعر فلسطيني عراقي يسأل عنك”، وسألته عن اسمه فقال:” خالد علي مصطفى”، وهو شاعر فلسطينيّ نزح إلى العراق، وعاش فيه حتى تُوفي رحمه الله، حين التقينا وجلسنا في بهو فندق “ البُحيرة” في العاصمة التونسيّة، بادرني بحميميّة وقال: أخي .. عبد..( بلهجته الفلسطينية)، أنا أعددتُ دراسة تعريفيّة ونقديّة عن الشعراء الفلسطينيّين، وقد أنجزْتُها، والوحيد الذي لاأعلم مكان ولادته في فلسطين هو أنت”، ابتسمت برضى، وقلت له:” ياصديقي، يُسعدني جداً أن تعتقد أنّي فلسطينيّ من خلال قصائدي المنشورة، ولكنْ.. أنا لستُ فلسطينيّ المولد، أنا سوريّ المولد، عروبيّ العقيدة، تقدّمي ، وحدويّ، وفلسطين في وجداني، ككثيرين من الشعراء العرب، مايليق بأنّها القضيّة المركزية لهذه الأمّة”، نظر إليّ بدهشة وقال:” ماذا أفعل بما كتبته عنك، وهو جاهز للطباعة”؟!! قلت:” تستلّه وتُلغيه لتحافظ على وحدة المقصد من كتابك”، فظهرتْ على وجهه ملامح أسى شفّاف،
-في عام 1992 كنت في بغداد للمشاركة في مهرجان “المربد”، وركبنا ليلا مايسمّونه “قطار الأدباء” من بغداد، وهو قطار يُخصَّص للأدباء المدعوّين للذهاب بهم إلى “البصرة”، وامتدّت الرحلة من المساء حتى الصباح، وكان في المقصورة الشعراء خالد أبو خالد، ومروان خاطر، ومحمّد عيادة ( سوري كان يُقيم في العراق)، وخالد علي مصطفى، ولم ننم تلك الليلة، وكان دوري في الإلقاء في جامعة البصرة، والقصيدة منشورة في مجموعتي” عراق”الصادرة عن دار دجلة في عمّان 2011، وحين انتهيتُ من إلقائها جلستُ في مكاني بجوار الشاعر والأستاذ الجامعي خالد علي مصطفى، فبادرني وقال” لو حذفْنا اسمك من القصيدة، ونشرناها، فهلْ هناك مَن يقدر، وأعني ذوّاقة الشعر ونقّاده، ..فسيقول العارفون منهم أنّها لشاعر عراقيّ”، قلت:” ياصديقي.. هذا أنا، أنا ابن كلّ وضيء في هذا الوطن، انتماء من الماء إلى الماء، ولا رابطة تربطني بالعاتم منه…”
عبد الكريم النّاعم