تؤنسنا الطبيعة بفصولها المتعاقبة… لكل فصل مباهجه وصوره الجميلة التي تحفر عميقا» في الوجدان.. فتضج الروح بمفردات الحنين وتتوق الروح لمحاكاة نهاراته ولياليه ….مشاهد لافتة تدعو للسكينة والتفكُّر… أنا شخصيا» تشرين يمثلني بكامل مفرداته وتفاصيله ومشاهده إلا أن أجمل مشهد على الإطلاق…. بات ذلك المشهد الذي يظهر فيه صهريج المازوت في أول الشارع.. يرنو متثاقلا» مختالا» بكامل هيبته ووقاره…
وأنظار العامة متعلقة بذلك القادم المحمل بالبهجة والأحلام الدافئة…. ثم تبدأ طقوس المناسبة كما في كل مرة.. مع انطلاق أول صيحة (أجا الصهريج يا شباب )…. صِبية تركض سابقة آباءها حاملة البيدونات… و يبدأ السجال حول الكمية… ثم حول الأحقية والأولوية…. على وقع زقزقة موبايل الصنديد قائد الحملة الذي ينتقي أرقاما بعينها ويرد عليها باقتضاب بكامل الأناقة ومع ابتسامة كاملة الدسم لندرك أن المتصل حصل على نصيبه مع الأشواق الحارة المدعومة. مائة ليتر من المازوت إن حصلت عليها كفيلة بأن تمنحك شعورا» بأنك فحل في زمن عزت فيه الرجولة… وأن نابليون بونابرت ليس أفضل منك شأنا»… إلا أن الحظ سانده بعض الشيء …. بعض القامات تنسحب بهدوء من خلف النوافذ التي تغلق أو الأبواب التي توصد في وجه هذا الصهريج المدجج بالغرور… فما تبقى من الراتب المصاب بالكساح لا يقوى على منازلة خاسرة وغير متكافئة.. فتنتصر عزة النفس.. وتقتنع بأن ليس لها قرص في هذا العرس الشعبي المازوتي التشريني المهيب.
لعنة الله على هذه الحرب وعلى من تسبب بها… وهنا تعود الذاكرة إلى الوراء.. إلى تشرين الذي كان يشبهنا… إلى باعة المازوت الجوالين… و (الكديش) المشنشل بالزينة البراقة…. والليتر أبو السبع ليرات… والخزان المتخم حتى شفتيه…. حيث كان الدفء وفيرا» والخير كثيرا»….. لقد رحلت تلك الأيام…. … تستفيق النفوس من غيبوبتها القسرية عندما يطلق الصهريج العنان لشخيره الحاد المنتصر مبتعدا …….. حاملا معه الحلم الصغير الذي كاد أن يصبح حقيقة…. تفتح النوافذ مجددا»… فيدخل تشرين المزيف… الذي (لا يشبهنا) إلى صدر المنزل كضيف ثقيل الظل. …. اللعنة على هذه الحرب الظالمة التي اختزلت أحلامنا وآمالنا حيث بات الدفء يتربع على عرشها. .
سامر سلمان