لا بد لي أولاً أن أوضح أنني لست من رواد المقاهي و لم يسبق لي أن ترددت عليها إلا مرات تعد على أصابع اليدين ،و لكن يصادف بين حين و آخر أن يدعوني صديق و يضرب لي موعداً في أحد المقاهي فأجد نفسي أوافق على ذلك كرمى للصديق الذي يفيدني انه يجلس دائماً هناك ..!!!
عادت المقاهي في حمص إلى عملها بعد سنوات الحرب العجاف التي انتهت بانتصار شعبنا و جيشنا المؤزر على قطعان الإرهاب.
اللافت منذ عقدين من الزمن انتشار المقاهي الصغيرة « الكافيتريات» في أحياء المدينة ، لكن يبقى للمقهى الكبير حضوره في الذاكرة وفي الحياة الاجتماعية للمدينة ، فقبل- الحرب- كان في حمص عشرة مقاه موزعة في أنحاء المدينة ..!! و تتشعب الأحاديث من العمل إلى السياسة و الثقافة و ترى بعضهم يحرص على قراءة الصحيفة و هو يحتسي الشاي أو القهوة و ينفث دخان نرجيلته و هو يشعر بمتعة كبيرة ..!!
في المقهى ذلك اليوم كنت ألبي دعوة صديقي للقائه و التحدث في شتى الموضوعات و تذكر الأيام الخوالي يوم كنا طلاباً في الجامعة و قبلها في ثانوية الفارابي قرب القلعة …و فجأة اقتحم جلستنا رجل عجوز ضئيل القامة يرتدي بزة أنيقة ور بطة عنق فاخرة و حذاء لامعاً كأنه اشتراه للتو من محل بيع الأحذية و ثمة رائحة لعطر لطيف تنبعث منه …عانق صديقي عناقاً حاراً ثم مد يده نحوي مصافحاً.
أصر صديقي عليه أن يشاركنا الجلسة فأبدى سروره للدعوة و جلس و هو يعاتب صديقي و أنه لم يره منذ زمن بعيد ..! و تشعب الحديث و كان نجم الجلسة هذا الضيف الطارئ فحدثنا عن أولاده الأربعة الأول طبيب مشهور و الثاني مهندس معماري و الثالث أستاذ جامعي .. و الرابع صاحب متجر و هو الوحيد الذي بقي هنا أما الثلاثة الآخرون فهم مغتربون .
بدا واضحاً عدم رضاه عن أبنائه المغتربين على العكس من ولده الرابع الباقي معه و الذي رفض الاغتراب على الرغم من المغريات الكثيرة التي قدمت له و بقي إلى جانب أمه و أبيه …و هو لا يخلد للنوم كل ليلة قبل أن يتفقدهما و يقول لهما « تصبحان على خير ..!! و هو بالمناسبة لا يحمل سوى شهادة إتمام المرحلة الابتدائية .
التقت نظراتي بنظرات صديقي و كنا في عجب كيف أن الحصول على أعلى الشهادات لا يعني التمتع بالأخلاق و الوطنية و حسن السلوك و بر الوالدين لاسيما و أن الأبناء الثلاثة موضوع الحديث قلما يرسلون المال لأبيهم وقلما يطمئنون عليه وعلى أمهم بالهاتف و قد تمضي سنة و أكثر دون ان يحصل ذلك.
و عن عمله في الماضي قال الرجل :إنه أحد البنائين المعروفين و هو متخصص بالحجر الأسود و يفخر انه بنى عشرات البيوت من هذا الحجر الذي كانوا يجلبونه من غربي حمص ،و لأنه عاشر الحجر أربعين سنة و نيف فهو يرى أن للحجر روحاً و إحساساً و دفئاً و حناناً .!! و اللافت في حديثه ثقافته الواسعة فهو يرى ان الفن الغنائي عندنا هابط إلا ما ندر وأن زمن الغناء العربي الأصيل هو زمن الفن.. و رحم الله عبد الوهاب و أم كلثوم و فريد الأطرش و محمد رشدي و محمد العزبي وأمد الله في عمر صباح فخري
و عندما سألته عن أهم عمل معماري قام به ، صدمت وأنا أرى عينيه تغرقان بالدموع و هو يجيب بصعوبة « أجمل ما بنيته بالحجر المصقول في الحميدية تهدم الجزء الأكبر منه بسبب الأوغاد الإرهابيين» لا تزال صورة هذا الرجل تقتحم مخيلتي …كانت جلسة المقهى مفيدة أضفى عليها الرجل لوناً خاصاً
كنا نصغي إليه بشغف و عندما خرجنا أسرع الرجل و سبقنا إلى المحاسب و أقسم يميناً أنه سيدفع الحساب و دفع ثمن القهوة و الشاي..!!
همس صديقي بأذني و هو يشير إليه بعدما و دعنا و ابتعد قليلاً : ألا تظنه وزيراً سابقاً بهذا اللباس الأنيق ؟!!
قلت: و هل تظن أنه لو كان كذلك .. كان سيجلس معنا او يأتي إلى هنا أو يدفع الحساب عنا .
عيسى اسماعيل