في عام 1973 انعقد مؤتمر الكتاب والأدباء العرب في تونس، وتضمّن أمسيات شعريّة، وكان في البرنامج أن نزور أكثر من مدينة في هذا البلد، فزرنا القيروان، والحمّامات، ومدينة المهديّة، التي بناها أبو عبدالله المهدي الخليفة الفاطمي حين شمل حكم الفاطميّين المغرب العربي ومصر.
-أستأذن في القطع -حين تزور بلداً عربيّا ذا تاريخ حضاري معروف، تشعر أنّ شيئا من عبق عطاء تلك الأزمنة قد علق بروحك، لاسيّما حين تكون الآثار علامة من تلك العلامات، ففي الآثار مضامين لاتتكشّفها إلا الأرواح الحسّاسة، فعلى سبيل المثال حين زرت الإمارات خلقت فيّ تلك الأبراج حالة نفور واغتراب، حتى أنّي سألت أما بقي من آثار القدماء الذين بنوا شيء؟!
وفي الأقطار ذات العراقة تغادرها فتشعر أنّك تركتَ شيئا من قلبك فيها، وأنّ في قلبك رائحة لها وملامح، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ بلدان المغرب العربي، تُحافظ في العديد من بنيانها الحديث على روح العمارة العربية الاسلاميّة، الأمر الذي نفتقده في بلدان المشرق.
وقفْنا في باحة جامع «المهديّة»، وتحلّقنا على شكل صندوق مفتوح، وبدأ أخ تونسيّ يشرح ملامح العمارة الفاطميّة، وفي سياق الشّرح عرّج بشكل سلبيّ على الفاطميّين، فقاطعته وقلت له مامضمونه نحن هنا أدباء وكتاب ، جئنا من أقطار العروبة، وكلّ واحد فينا يرى أنّه قد اختار آفاقه التي يضرب فيها، ويكفينا مانحن عليه من فُرقة، وأنت مهمّتك أن تقدّم لنا معلوماتك التاريخيّة لاأن تفرض علينا أحكامك، احمرّ وجهه الأبيض المستدير، واحمرّت أذناه، وحاول الانسحاب فقال:« أنا لم أقصد..»، فقاطعتُه «قصدت أم لم تقصد تفضَل وأكمل شرحك».
جامع « المهديّة» يطلّ على البحر، مبنيّ، إذا لم أنس، بالحجارة البازلتيّة، ويُصعَد إلى سطحه بدَرَج حجريّ عريض موصول بجانبه، وبينما كنّا نصعد ارتفع صوت الشاعر الليبي علي المصراتي،.. وله طريقته الاستعراضيّة في التعبير، وحيويّته بادية، فرفع صوته وقال مخاطبا الجميع:« هل تعلمون أنّ هذه السواحل، من ليبيا حتى المغرب، لولا فضل (العثمانيّين) لربّما كانت صارت إلى النصرانيّة»، وأنا منذ أن وعيت على الحياة أشعر أنّ بيني وبين العثمانيّين ثأراً كبيراً بحجم التخلّف الذي فرضوه علينا، التفتُّ إلى المصراتي وقلت له:«وماذا يعني أن يكونوا نصارى أو مسلمين ماداموا عربا، ويتمسّكون بعروبتهم»؟!! قال:« أهلنا في المشرق هذا خلاف جذريّ بيننا وبينكم»، قلت:« وسيبقى حتى يُحسَم لصالح أحدنا»، الأستاذ جورج صدّقني رئيس الاتحاد، رحمه الله، رئيس الوفد كان يسمع أصواتنا العالية، فالتفت إليّ واستوضحني :«ماهذا»؟ فقلتُ له هذا فلان يقول ماهو كيت وكيت، هل أدعوه لك لتناقشه»، فرفع يده كمَن يدفع شرّا وقال: لالا، خلّيه عندك .
يبدو أنّ الآفة « العثمانيّة » التي نشرت الجوع، والخراب، والتخلّف في أنحاء وطننا العربي،.. هذه الآفة ماتزال قارّة في أعماق البعض، فهي كالداء الذي حين يتلمّس مكافحة فعّالة ينسحب ويهجع بانتظار أيّ حالة ضعف للعودة للفتك بجسد الأمّة، وما مرّ بنا في أكثر من قطر عربيّ في الأعوام الثمانية الأخيرة لايحتاج إلى دليل.
هناك مَن لاتشغله أمور الآخرة، وليست في حسبانه، وهذا شأنه، أمّا « الوطن» فهو الأرض، والتاريخ، والذاكرة الجمعيّة، والمستقبل، لكل مَن وُلد فيه، ويُفترَض ألاّ يُسمَح لمن يحمل أفكارا تثير التفرقة والخلاف بنشر سمومه، لأنّ الوطن يتطلّب منّا جميعا، أن نقدّم له أبهى وأكمل مانملك ليكون لنا غد بهيّ، متخلّص من جميع عقد التجييش باسم الدين…
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@gmail.com