يحضرني دائماً مطلع قصيدة للشاعر الشريف الرضي يقول فيه:
يادار ما فعلت بك الأيام ؟ ضامتك والأيام ليس تضام
يحضرني وأنا أقف أمام دار أصبحت أطلالاً , أمام حديقة أصبحت قفراً , أمام ملعب غدا مكباً للقمامة .. فأردد في أعماقي وأنا موزّع بين الحسرة والذهول : يادار ما فعلت بك الأيام ؟! وتسافر بي الأفكار وتداهمني التساؤلات : لماذا يحمل الإنسان الأيام أو الزمان آثامه وخطاياه ؟! لماذا يهرب من كشف عوراته ويحملها للأيام ؟ أهو ضعف الإنسان عن مواجهة الحقيقة ؟ أهو إحساسه بقوة الزمان الذي مهما حملناه من أوزار لا ينحني ظهره ؟ ألم يكن أبو العلاء المعري مصيباً الحقيقة , جوهر الحقيقة حين أقام مصالحة مع الزمان ومشى معه في وئام ومهادنة ؟!
ولما أن تجشمني مرادي جريت مع الزمان كما أرادا
وهونت الخطوب علي حتى كأني صرت أمنحها الودادا
نعم تعجبني مصالحة المعري مع الزمان , وكان صديقي الأديب الراحل المقيم ممدوح السكاف يسميها المصالحة مع الحياة ويقول : أنا متصالح مع الحياة , ولكنني أعترف بأن مصالحتي مع الحياة تأخذ في جانب واحد فقط منحى هروبياً , فأبناء شقيق روحي يلحون علي أن أذهب معهم وأرى دارنا – التي كانت داراً – في بلدة القصير التي قلت فيها في أكثر من مهرجان لقادش:
هذي القصير وهذي الروح والبدن
إني أحب وبيت القلب مرتهن
وقلت فيها أيضاً :
يسيل قلبي الى لقياك يا بلد
كما يسيل للقيا الوالد الولد
ولكنني أهرب من إلحاحهم عليّ وإصرارهم أن أذهب إليها بالقول: إن في مرآة ذاكرتي صورة ساحرة لهذه الدار , ومازلت أرممها وأجملها في كل يوم ولا أريد لمشهد آخر أن يشوهها أو يحل محلها فيتساءلون وهم لا يعرفون إلا القليل القليل عن هذه الصورة الساحرة ,وما ملامح هذه الصورة ؟! أطلق آهة مديدة وأقول: أول هذه الصورة : جدتي تجلس على درج الباب وترد السلام على جارنا – محمود السايح – أهلين يا بني فأسألها لماذا يا بني ؟! فتجيبني إنه أخو أبيك بالرضاعة لقد أرضعته . وأنا في أول الصورة أرى أمي تسقي وردة فم السمكة المتعددة الألوان تداعب أحواض الورد الجوري وتهمس في أذن القرنفلة : حبيبتي أنت !! وتعتذر من الياسمينة أنها تأخرت في سقايتها ، وفي منتصف الصورة أبي يمتح الماء من بئر الدار بالدلو أو القادوس ويسقي العريشة والزيتونة ويرتب الجلسة فبعد قليل سيحضر أصدقاؤه أبو محي الدين وأبو ممدوح وأبو الحكم , والسمر يطيب ,وفي طرف الصورة أجلس أنا ورفاق البيادر والكرة وقطف العنب وصنع الدبس رفاق الرجاد والدراسة نتأمل عش السنونو في زاوية بيتنا الأوسط , هذا العش الذي يجدده أصحابه كل عام بعد هجرة طويلة فهنا الدفء وهنا الأمان .
تجحظ عيون أبناء شقيق روحي وأنا أرسم لهم ملامح الدار كما كانت وأما الآن فقد أصبحت أكثر من أطلال وهم لا يعرفونها إلا هكذا وبيتنا الأوسط سحب الجيران أخشاب سقفه لاستخدامها في النجارة , فكان آخر مشهد جميل في الصورة ينهار .. أتراني في هذه المصالحة الهروبية مع الحياة أحاكي الشاعر بدوي الجبل في قصيدته الرائعة – خالقة – التي يقول فيها :
-أخادع النوم اشفاقاً على حلم – فأنا أخادع الواقع اشفاقاً على الصورة الجميلة الساحرة ؟ ربما ..!!
د. غسان لافي طعمة