الآن كما في الماضي، هناك ثنائيّة جدليّة عاشت وتعيش عالمياً، هي ثنائيّة “الحقّ والقوة”، التي بدأت في “أثينا الإغريقيّة”، قبل 2400 عام وأكثر”، ومنذ ذلك الوقت فإنّ القاعدة التي ترسّخت، هي أنّ “العدالة”: أيّ “الحقّ”، لا معنى لها بدون القوّة، وأنّ الحقّ لا يعلو لمجرّد أنّ قوانين التاريخ، وسنن الحياة تفرض ذلك:
“والحقُّ والرّشاشُ إنْ نطَقا معاً عَنَتِ الوُجوهُ وَخَرَّتِ الأصنامُ”!
عليه لا بدّ من توافر قسطٍ من الضعف لدى طرفٍ ما، وقسطٍ أكبر من القوّة لدى آخر، لتتحوّل العدالة “أي الحقّ”، من قيمة مجرّدة يتداولها الفلاسفة والمصلحون، إلى حُكْم إجرائيّ وتنفيذ فعليّ! فالقوة الأمريكية لا “الأثينيّة”، هي ما فُرِض بالإكراه، جرى هذا من خلال ثنائيّة “العصا والجَزْرَة”، بكلمة مُختزَلة: تقديم “المساعدات الأمريكية”؛ من هنا فإنّ الحقبة الأمريكية التي تأسّست منذ البدء، على معايير ذرائعيّة صارِمة، لا تعترف ـ وعلى مدى تاريخها المُدَان ـ بكلّ ما لا يقبل الترجمة الفورية إلى “ربح وخسارة”، أو إلى “ربح وربح”، أي “اللهاث وراء المصلحة الاقتصادية الشخصية..”! لقد أقامت أمريكا علاقاتها الخارجية، مذْ عثرت على موطئ قدم لها في الفراغ “الشرق- أوسطي” – حسب المصطلح الشهير لأيزنهاور ـ في ضوء نظرية شبه ثابتة، قد تتغيّر فيها التقنيّة والأساليب، لكنّ المضمون الاستعماري واحد! هذه النظرية يمكن اختصارها بمقولات سبق وأن أطلقها “ألكسندرهيج”، وعمّقها “هنري كيسنجر”، وتغوّل بتفاصيل أجنْداتها، “مستشارو الأمن القومي الأمريكي”، “البراغماتيون”! إنّ واشنطن تهتمّ بمصالحها، ولها مجالها المغناطيسي على امتداد هذه المعمورة، للاستيلاء بالقوّة على استنزاف مواردها، وتستطيع أنْ تحرّك بـ “الريموت كونترول”، زعماء وأمراء وملوكاً وحُكّاماً وسلاطين ورؤساء، وهي موجودة ماديّاً على صدورِ وأدمغة وأراضي وبحار ومحيطات وخلجان ومطارات أكثر من (80) دولة بالعالم، وموجودة من خلال سفرائها الذين تحوّلوا بفضل “فائض القوّة” إلـى “مندوبين سَاميِّيْن”، أو “مُحرِّضِين سَامِّيْن”، أو “جواسيس وعملاء”، أو من خلال “جَزْرَة المساعدات الأمريكية” التي تبلورت بالأعوام الأخيرة، مشروطةً بشكلٍ مفضوح! أمّا المقايضات السياسية التي تعقدها واشنطن “بالقمح، والدولار، وقوّة التدخّل السريع”، مع أطراف تعاني خوفاً معتّقاً، فقد أضافت إلى”البراغماتيّة” التقليدية جُرْعة جديدة، هي بمثابة “الرّبا السياسي لا الاقتصادي”، الذي يتوجّب على المدنيين سَداد فاتورته بالإكراه! ولم تكن “صاحبة تماثيل الحرية المزعومة، وراعية سلام وحقوق الإنسان بالعالم، زوراً وادِّعاءً” بحاجة لمجهود كبير لتنجح بتجييش أوروبا، ومَنْ مشَى بِرِكابها؛ فأمريكا حوّلت “مجلس الأمن” إلى ملحق بالقطار الأمريكي، ولوَّحت ببقايا “الجَزْرَة” المقضومة لنُظم وقادة وأمراء وسلاطين ومشيخات وملوك ورؤساء دول، فأسَالَتْ لُعابهم على فتائت ومكاسب هزيلة قلّما ظفروا بها! ففي نهاية “الحرب الباردة” على النحو “الدّراماتيكي” المسرحي المثير، الذي انتهت إلى ما انتهت إليه، حُرِمت الكيانات الصّغرى من الدَّلال السياسي القديم، فبات مجرّد الحصول على “بوليصات تأمين” أمريكية الصنع، – لديمومة أعمار بعض النظم والكيانات الهَشّة- مكسباً بحدّ ذاته! وهكذا تحوّل الأجَرَاء إلى سُخْرَة، وأصبح الزّعيم “المُتأرْنِب” الخائف، يقدّم واجبات الولاء والانحناء مقابل بقائه بكرسيِّ عرشه وصَغَارِه! السؤال: أين العدالة الحقيقية إذاً، إذا كانت “القوة”هي المعيار الحاسم لتطبيقها؟ خصوصاً وأنّ هذه القوة ليست “حصّالة” قوى دوليّة، بل هي من “إبداعات” طرف واحد، يعلن “صباح – مساء”: أنّه الوصيّ الأوْحد، بل القطب الوحيد على هذا الكوكب، وأنّ عقود الألفيّة الجديدة هي مجاله الحيوي الرّحب، للمضيّ قُدُماً في ترسيخ الهيمنة، وفرض شروط الإذْعان، وتحويل الشعوب لمجرّد رهائن وعملاء وأرقام ودولارات ومرتزقة، لكن نطمئنُها أنّ هذا الرّهان بطريقه للانحسار والتلاشي والذوبان، بفعل قوى أخرى، شرَعَت تنفض عن وجهها غبار الانكفاء والتّراخي.. ففي المثال “النّتِنْ– ياهي”، تختلّ معادلة القوّة والعدل، لمصلحة القوّة وحدها، سواء أكانت بمعناها المحسوس المباشر، أم منْ خلال النفوذ الإعلامي المضلّل.. وقد يكون السؤال القديم المشروع بآنٍ: “مَنْ يُحاكِم مَنْ؟” ـ بظلّ قانون “شريعة الغاب” السائد أمريكياً وصهيونياً ـ جديراً بإعادة الطرح، لأنّ القتلة والقضاة، قد تبادلوا الأدوار، ولأنّ الشهود ليسوا جميعاً “شهودَ حقّ”، بل غالباً ”شهود زورٍ مأجُورُون”! وقبل ما يزيد على نصف قرن، كتب الأديب الفرنسي “ألبير كامو” مسرحيّته الشهيرة “العادلون”، ويومها لم تكن أمريكا، قد وصلت إلى حالها كدولة استكبار وغطرسة، بل كانت متخفّية بثوب “المخلّص” الذي يَعِدُ الشعوب والقارات المنكوبة بوضع حدّ لطغيان الاستعمار القديم؛ ولو عاش “كامو” وأبناء جيله، لرأوا العَجَبَ العُجَاب، كيف يحقّق “الأسيادُ العادلون العدلَ الإنساني”، بوساطة القذائف والصواريخ وطائرات الـ “F-16”، وصواريخ الـ (توما هوك)، ومعتقل “غوانتانامو”، وسجن “أبو غريب”، وكيف يعملون على حياكة المؤامرات والفتن، وزيادة حجم الخراب والدّمار والقتل، من دون رحمة، أو توفير لأبسط حقوق الإنسان..
وجيه حسن