لم يجمع الدارسون بعد على الدقة المطلقة للمثل الشعبي وقدرته على التعبير والإلمام الكامل بالحالة التي يرمي إليها لكننا جميعاً متفقون أن هذا المثل الشعبي يعيش ويستمر بمقدار ما تغذيه وقائع الحياة…ومنها المثل الشعبي القائل :«اتق شر من أحسنت إليه » فهل كل من نحسن إليهم أشرار ألا يجوز أن نكون نحن موضع إحسان علينا في أمر ما فإذاً نحن أشرار أيضاً لأننا لا شك قد أسأنا إلى من أحسن إلينا وذلك حسب المثل الدارج ..وحقيقة الأمر أن البعض يعمل على عض اليد التي أحسنت إليه وكأنه يرى في الإحسان نوعاً من الإهانة يردها بالإساءة كنوع من الانتقام للؤم في طبعه أو ضعف في شخصيته أو يكون مدفوعاً بشعوره الباطن أن هذا يرفع من شأنه تجاه اليد العليا على يده لأنّ صاحبها رجل ناجح ..ولكن ألا يمكن أن يكون هذا الإحسان مبطناً بلؤم خسيس هدفه إظهار الفوقية والتعالي فيأتي الإحسان مجرداً من عناصر الإنسانية ويغدو سماً مدسوساً في الدسم….
ثم هل يجوز ممن قدّم الإحسان أنه قد راح يراقب من أحسن إليه فيعدّ عليه همساته وخطواته وجميع تصرفاته حتى إذا رأى هنّة هنا أو هناك تؤثر عليه بشكل أو بآخر راح يطرق المثل الشعبي فوق رأسه ..اتق شر من أحسنت إليه..
المجتمع خلية نحل شئنا أم أبينا ولكل منّا دوره سواء برغبته أم بفرض من الآخرين ،والحياة مليئة بأصناف مختلفة من الناس بعضهم تعوّد أن يكون معطاءً أينما حلّ ولو ببسمة أو نصيحة وبعضهم لا يعرف سوى الأخذ..ومنهم من صداقته تكسبنا الخير والبركة والسعادة ويكون فألاً لأصدقائه وإخوانه ومنهم من تكون معرفته باباً للشقاء والهموم والمتاعب وهو شؤم على كل من يصادقه أو يتعامل معه وآخرون يعيشون بالمنطقة الرمادية غير مستعدين أن يعلنوا عن رأي أو يتخذوا أي موقف ،يعيشون ضمن دائرة الحذر من كل شيء..وهؤلاء جميعاً نجدهم في المجتمع الواحد ولا شك أنّ تفاعل الأشخاص مع بعضهم البعض سيعزز التصرفات حسب الشخص ذاته وليس حسب نوعية التصرف ومن هنا راحت الأمثال الشعبية ترسم صوراً واستنتاجات لكيفية معيشة الناس بعضهم مع بعض …فلم تترك حالة من حالاتنا إلاّ ورسمها بشكل أو بآخر فإذا اتخذنا الأمثال والحكم برنامجاً لحياتنا فإننا ندور في مكاننا تماماً كالدولاب يدور في الهواء دون أن يلامس الأرض…فنقضي أيامنا ضمن ما رسمه لنا الأجداد في أمثالهم ورؤاهم..
وأنا أقول لا تتق شر من أحسنت إليه بل ترقب خيره ولنكن مثالاً في الإحسان كيفما تصرفنا فلا شك أنّ هذا الإحسان سيعود بالخير أكثر مما يعود بالشر عاجلاً أم آجلاً ويحضرني في هذا الحديث ما قرأناه في كتبنا المدرسية عن ذلك الرجل الذي كان يركب حصاناً بالصحراء فلقيّ أعرابياً يمشي ويكابد الحر والعطش …فنزل عن صهوة جواده وأعطاه لذلك الأعرابي كي يتبادلا الراحة والسير ..فما كان من ذلك الأعرابي إلاّ أن نكز الحصان وراح يعدو به …وهنا صاح الرجل صاحب الجواد قائلاً :مهلاً يا أخا العرب ولتعلم أنّ هذا الحصان هدية مني لك أرجو أن تكتم الحادثة كي لا تنقطع المروءة بين الناس فما كان من الأعرابي إلاّ أن عاد خجلاً ليسلم الحصان لصاحبه ..وإذاً لا تتق شر من أحسنت إليه بل أحسن ما استطعت .
يوسف قاسم