الزّمن 1979، في الوقت الذي شاع فيه التفاؤل بلقاء كلّ من دمشق وبغداد، وبقيام مشروع وحدويّ يستفيد من التجربة السابقة بين دمشق والقاهرة..، في ذلك الزمن أُتيح لي أن أسافر إلى العراق، وكانت زيارته حلما بالنسبة لي، فثمّة شيء خفيّ يشدّني بقوّة ولهفة لهذا البلد، قد لايستعصي بعضه على الشرح، ولكنْ تصعب الإحاطة به،النّاس هناك مشرقو الوجوه، واللهجة، يكاد الوثوق يطفح كتابا من الجبهات السمراء،كان لديّ عدد من الخطوات التي عليّ أن أقوم بها لأنجز بعض مافي نفسي،سألتً صديقا عراقيّا كان قد زارني في حمص قبل عامين تقريبا عن أشهر محلّ لبيع أشرطة الكاسيت في بغداد، فأخذني إلى محلاّت “جَقْمَقِجي”، وهو محلّ كبير، وفيه الكثير من نوادر الغناء والموسيقا العراقيّة، سألت صاحب المحلّ عن شيء لعازف العود الشهير جميل بشير، الأخ الأكبر لمنير بشير، وكنّا قد بدأنا نتعرّف في سوريّة على منير بشير، فما وجدتُ سوى اسطوانة صغيرة، سُجّل على أحد وجهيها “ دبكة عربيّة”، عزف على كمان جميل بشير، وعلى الأخرى دبكة عربيّة، ولكنّه دلّني على صاحب مكتبةِ نسخ وسحب وطباعة لديه سهرة خاصّة مع عود جميل بشير ومع كمانه، ذهبت إلى المحلّ وسلّمت فردّ عليّ صوت أجشّ لايخلو من حشرجة، قلت له ماأريد، فقال لي دون اهتمام، بلهجته البغداديّة: “ يابا والله ماعندي مين ينقل، إذا تجيني يوم السبت فأهلا وسهلا”، قلت: سآتي يوم السبت”، فتابع :” أريد ثلاثة دنانير”، كانت قيمة الدينار العراقي قرابة ثمانين ليرة سوريّة، فناولته ماطلب، وكان اليوم يوم أربعاء، وسبب لهفتي أنّي لم أعثر على تسجيلات لهذا الموسيقيّ النّادر، حتى عند أخيه منير بشير، الذي أنبأني أنّ ابن أخيه بعد وفاة أبيه جاء إلى العراق وأخذ كلّ أرشيفه، وفي اليوم التالي مررتُ بصاحب المكتبة لأتأكّد من أنّه لم ينس، فناولني الشريط الذي أحضرتُه مع جملة ماأحضرت من أشرطة، وسمحت لعازف العود الحمصي فرحان الصباغ، وكان لديه محلّ لبيع الأشرطة وتعليم الموسيقى والإيقاع، في الشارع الكائن خلف مقهى الروضة الحالي، سمحت له بنسخه وبيعه، فانتشر في حمص بين المهتمّين أيّما انتشار.
في تلك الزيارة أُجريت معي مقابلة إذاعيّة، وفور انتهائها رافقني أحد العاملين فيها إلى بناء مجاور لاستلام مكافأتي الماليّة، وحين أخذتها، قدّمت مبلغا ما لهذا الأخ العراقي، فنظر إليّ باستغراب، وبلهجته البغداديّة أيضا قال مستغربا:” شْكون هذا ؟!! آني راتبي مكفّيني، لا..، شكرا” فانتابتني حالة من الحرج.
في عام 2002وكنّا عائدين من البصرة إلى بغداد بقطار الأدباء الخاص بشعراء المربد، كانت الأرض على امتداد ماتراه العين قاحلة، بعد أن غادرنا غابات النّخيل في البصرة، وأعداد كبيرة من السيارات العسكريّة والآليات مدمَّرة محروقة بنيران الغزاة الأمريكان بعد احتلال العراق للكويت، خُيّل لي أنّ في ذلك الحديد المحروق أرواحاً ماتزال مشبوحة هناك،كنّا ضيوفا على فندق فلسطين، في بغداد، واعتدنا أن نذهب لجهة محدّدة لتناول الطعام، كان النّادل يبتسم من وراء مرارة ما طافحة، وخلال تردّدنا صار بيننا شيء من الكلام، وكنّا نترك ماتيسّر من الدنانير له، فقد كانت الألف ليرة سوريّة تُصرَف بعشرين ألف دينار عراقيّ!!،
في إحدى الحوارات مع ذلك النّادل علمْنا أنّه خريج معهد فندقيّ، وهو على تماس مع الثقافة، وأنّه يطمح إلى أيّ عقْد يأتيه من أيّ جهة من جهات الخارج، حزّ ذلك في نفسي، وأحسست بحجم القهر والمعاناة، فقد كانت بادية في العيون، وعلى الوجوه، بعد ذلك الحصار الأمريكوصهيوني لأهلنا في العراق، قلت له مواسيا:” عسى أن يكون الفرج قريبا”، قال بأداء حزين، بلهجته البغدادية أيضا:” منين يابا، هاي اتنعشر عام، خلص العمر”، فأحسست برغبة في البكاء، وأدرت وجهي…
عبد الكريم النّاعم