وأنتَ تُتابعُ حديثَ أحد الأشخاص تجدُكَ مُضطرّاً للانتباه أحياناً ، ولو لم يكن الحديث يعنيك من قريبٍ أو بعيدٍ .
أخذتني المصادفة إلى بقالية لبيع المُكسرات كان البائع فيما عرفت لاحقاً يعمل طبيباً بيطرياً، حينما جاء شخص، وهو يوجه الخطاب إلى البائع الطبيب قائلاً سأشتم جميع الأطباء هكذا دخل علينا اندهشت للفظ ، فمطلقه رجلٌ تبدو عليه ملامح الوقار ، والهندام الأنيق يوحي بأنه ابن عزّ كما يُقال ، فيما كانت الابتسامة ردّة فعل البائع الذي أجابه : لن يبلغني أي شتيمة مما ذكرت لأني طبيب بيطري ، وقهقه بضحكة ، وهو يتابع الوزن وبعد الانتهاء من الحساب طلب من الزائر أن يجلس وعرَّفني عليه ، فعرفت أنَّ الرّجلَ القادم يعمل مكنسياناً لإصلاح السيارات ، وهو صديق البائع الطبيب البيطري الذي فيما يبدو تجمعهما صداقة ترجع إلى أيام الدراسة الإعدادية غير أنَّ كلاًّ منهما اختار لنفسه طريقاً في الحياة ، وعرفت أنَّ الوضع المادي قد اضطر الطبيب البيطري ليعمل في بقالية لبيع المكسرات ، وبعد أن جلسنا راح يسرد الضيف على مسامع صديقه الطبيب القصة ، فيما كنت مندهشاً مما أسمع ، وقد تملكتني رغبة التعرّف إلى الحقيقة ، وأثارت فيَّ الفضول لمعرفة التفاصيل ، ومفاد القصة التي سببت غضب الرجل هو أن زوجته الحامل قد اضطرت لمراجعة طبيب نظراً لاقتراب موعد الولادة وفق حساباتها وللاطمئنان على وضعها وسلامة الجنين ، فقد ذهبت إلى الطبيب الذي فاجأها باندهاشه ، وأنها قد تأخرت في الحمل ما يستلزم دخولها المشفى على وجه السرعة , وإجراء ولادة قيصرية وأمام استعجال الطبيب ، واستغراب المرأة الحامل أسرعت إلى البيت ، لأخذ مشورة الزوج فيما يجب أن تفعله أخذ الزوج الرقم من الزوجة ، وبادر الزوج حديثه مع الطبيب الذي كان يتردد على الزوج لإصلاح سيارته بين الحين والآخر ما جعل بينهما رابطة عمل تحوَّلت بفعل التكرار إلى صداقة ، فسأل الزوج الطبيب : يا دكتور زوجتي بقي على وقت ولادتها أكثر من أسبوعين ، فلماذا الاستعجال والعملية القيصرية ؟ وهل ثمة من خطورة عليها أو على صحة الجنين كما ذكرت لها ؟
رد الطبيب :منْ زوجتك ؟
فأخبره باسمها ، فضحك الطبيب ، وحاول أن يبرر لا..وضعها جيد.
لماذا لم تخبرني أنها زوجتك ؟
رد الزوج وما الفرق وما علاقة الزوج بقصة الاستعجال ، وإجراء العمل الجراحي لها ، فكان قول الطبيب وبالحرف ، وأوردها كما لفظها الراوي ــ وعلى ذمَّته ــ :
( والله لديَّ دفعة مضطر عليها ) !
هنا انتهى القول ، وأبدأ بما هو على هامش القول ، لأقول هل يمكن أن يكون الإنسان تاجراً في قضية الأرواح البشريَّة ؟ وإلى أي مدى يُمكن أن تغمض المنفعة المادية الآنية العين لدى الإنسان ، ليتجاوز كل ما هو نبيل وإنساني وأخلاقي ؟ وهل من المعقول أن تتحوَّل لدى بعض الناس أنبل المهن وأهمها شأناً إلى معادلة تجاريّة تكون سبباً للربح المادي والكسب بالطريقة هذه ؟
أعتقد بأنَّ في داخل كلّ إنسان لا شك بذرة طمع ولكنَّ هذه البذرة مهما كبرت يجب ألا تتجاوز الحد بحيث تصبح سبباً في إيذاء الآخرين ؟ فكيف إذا ألحقت الضرر المادي بهذه الطريقة التي قد تصل إلى الموت والمكسب هو بضعة من الألوف التي ستسد حاجة ضاغطة ما ؟ !
أنا لا أنكر أنَّ الوضع المادي صعبٌ بفعل الحرب التي اتخذت أقذر الوسائل ، ومورست فيها أبشع الحملات ولكنْ أن يصل الأمر بمن يمتهن أشرف المهن ، وأسماها للتفكير بهذه الطريقة فتلك مسألة أخرى ، وربما لا تحتاج إلى هامش على قول ، بل تستلزم فعلاً علاجاً يستأصل مثل هكذا أنموذجات تتستر وراء الجمال ، وهي قبيحة ، وتظهر كهالة من النور ، فيما هي كتل من دخان أسود ، وعلى هوامش القول ثمَّة هوامش أخرى .
د. وليد العرفي