لو بُدّلتْ أعلى منازلُها سفلاً وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها فيردّه الإقواء والمحْلُ
لعرفتُ مغناها لِما احتملتْ منّي الضلوعُ لأهلها قبْلُ
بهذه الأبيات للحارث المخزومي يستهلّ الأديب و الناقد الراحل يوسف سامي اليوسف رباعية (تلك الأيام) ،فيقدّم سفراً،بل، وثيقة الحنين إلى المكان،في ذاكرة تنبض بخطو أهل ذلك المكان، بأفراحهم، وأحزانهم،بأغانيهم، بآثار أيديهم، ووقع أصواتهم، بمذاق الصبّار، والتين، ودورة الزيتون. ذاكرة مندّاة بدمع الفقدان،مصبوغة بالحنين، معطّرة بدماء شهداءٍ جُزروا على مذبح فلسطين، مُضاءةً بيقين الرجوع، ولو بعد آلاف السنين، مدعومة بشواهد التاريخ، واستحقاقاته .
يمضي بنا اليوسف إلى عوالم رواية سيرة ذاتية ترتقي إلى فنّ التأريخ وصدقيته، متوهّجة بحرارة الشعر، وهي سفر يمتدّ على أربعة أجزاء، تفرد صفحاتِها لحياة طفل فلسطيني اقتلعته يد الجريمة الصهيونية من قريته، وألقت به بعيداً عن ترابه في مخيمات القهر والغربة.
إنها سيرة كلّ طفل سُلبت أرضه، وأفراحه، وطفولته، بعد أن حوّلته يد الصهاينة لاجئاً في الشتات، يعاني ما يعانيه الشجر المقلوع من حرمان، وحنين، وغربة، وعطش .يمضي بنا إلى شطر مبكر من حياته، حيث ولد في فلسطين، وترعرع طفلاً في قريته «لوبيا» القريبة من طبريا، ليكرّس صفحات هذا الجزء للسنوات العشر الأولى من حياته التي قضاها في الوطن، منذ ولادته عام 1938 حتى طُرد منها بقوة السلاح، بعد أن استبسل أهلوها بما لديهم من أسلحة بدائية لا تتعدّى العصا والمقلاع وأحياناً البارودة . .
يقول في الجزء الأول أنّ الغاية الأولى من كتابه هي محاولة يبذلها ابتغاء تخليد صورة القرية التي ولد فيها والتي رأى بيوتها تتهاوى تحت نيران مدفعية الصهاينة لتتحوّل إلى عدمٍ وحطام، بعد عراك بطولي بين قوّةٍ حقٍّ عزلاء، وقوّة باطل مدججة بأعتى الأسلحة. فيعرض الكثير من التفاصيل ذات الصلة بالموقع والأرض المحيطة، والبناء، والعادات الاجتماعية، في محاولة لتقديس المكان، لأنّ الصراع في فلسطين مازال يدور من أجل الأرض ، أي المكان. فيجعل الانتماء والحنين إلى المكان الذي أنجبه قيمة سامية في عالم يتفسّخ.
يصرّ على التشبث بالمكان الأول بوصفه القيمة الأصيلة الوحيدة ، مع أنه لم يبق له وجود إلاّ في ذاكرته وحدها . وذلك لصيانة تفاصيل الحياة الفلسطينية القديمة التي عاشها قبل النكبة وخلالها وبعدها، لحفظها من النسيان،ولتظل صورتها ماثلة أمام الأجيال التي لم تولد بعد، وهو إنجاز من شأنه أن يسهم في تدشين حركة الاسترداد التي سوف تنتصر حتماً، ولو بعد مئات السنين .
الصيانة هذه من شأنها أن تبثّ روح الأمل والتفاؤل بأن قوى التحرير آتية لا محالة ، كي تسترجع الوطن السليب كلّه ، وكي تعيد بناء القرى التي هدمها المجرمون الصهاينة ، الذين يتجاهلون أبسط حقائق الحياة :
« إنّ لوبيا سوف تبنى من جديد في المستقبل البعيد، مع أنه لا وجود لأيّ شيء يسوّغ هذا التفاؤل. ولسوف يعمل التاريخ على توليد اليوم الذي لن يفلت فيه الصهاينة من العقاب ولو بعد ألف سنة.إن الصراع على أرضنا يدور منذ أكثر من مئة عام من أجل الأرض، المكان ، وهذه الحقيقة وحدها مسوّغ كافٍ للاهتمام بتفاصيل القرية التي عشتُ على أرضها طفولتي، وهذا الإهتمام بالتفاصيل هو دليل على أننا ألصق بالمكان من تلك الطفيليات التي أتت إلى فلسطين مدّعية بأن كومة من الترهات والخرافات هي حجة كافية تهبهم الحق في تأسيس تجمّع لهم على أرضنا التي يزعمون أنها أرض أجداده » * تلك الأيام ج1.
ويتحدّى يوسف اليوسف الصهاينة أن يبرهنوا على أن فلسطين كانت وطناً لهم في أي طور من أطوار التاريخ القديم . في الوقت الذي يُفصّل في جغرافيا الأماكن المحيطة بقريته ابتغاء صيانتها من الزوال ، لتعيد لها الأجيال التي لم تولد بعد هويتها ،وقداستها بتحريرها ،فيقول:
« أذكر هذه الأسماء كلّها، وهذه التفاصيل من أجل تخليدها، وابتغاء تزويدها بالمناعة التي تصد عنها أمواج الزمان، إذ لا بد من إطلاق هذه الأسماء ثانية على الأماكن التي تخصّها،إذ قد يُتاح لأحفادنا أن يعودوا إلى بلادنا، التي لا بد من استردادها في المستقبل، على الرغم مما قد نواجهه من محن، وهذه هي الحتمية التاريخية الوحيدة التي أؤمن بها دون ارتياب » *تلك الأيام ج1
الجزء الأول من(تلك الأيام) مختص بفلسطين المحتلة قبل سواها، المكان بتفاصيله الكثيرة،وأسمائه،وأهله،وسجاياهم، ماحسن منها،وماساء،عاداتهم،طقوسهم،ملبسهم،مأكلهم،أغانيهم،ويفرد للأعراس صفحات طوال،ما يشير إلى ندرة ما تبقّى من فرح في عالم اللجوء والاقتلاع، ينهيها بحسرة حارقة،واتهام لكل من ساهم بقتل الفرح في وجدان الفلسطيني.
تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه رحلة في الذاكرة لأيام النكبة 1948وما شاهده الكاتب في عين الطفل من تحد ضد إرهاب ذهب بأرواح آلاف الفلسطينيين . إنه توثيق للمجزرة التي بدأها الصهاينة ولم تنتهي ويؤكد اليوسف:
« ينتابني على الدوام شعور بأن المكان الأول (لوبيا) قد امتزج بالزمان ، حتى لم يبقَ أيّ منهما يقبل الانفكاك عن الآخر. إنّ (لوبيا) لم تعد مكاناً خالصاً في وعيي، بل صارت زماناً راسخاً في الوقت نفسه. فهي طفولتي بقدر ما هي وطني، الذي عشتُ به طفولتي ، وبذلك غدت صورة عُليا، ومصبّاً خيالياً من الأشواق تندفع بين الفينة والأخرى باتجاه البرهة الإبتدائية التي صارت أشبه بفردوس مفقود» *تلك الأيام ج 1.
هذا الكتاب هو شهادة،ورسالة إلى الأزمنة التي لم تولد بعد.
غادة اليوسف
المزيد...