التراث و علاقته الجذرية بالرواية العربية

أدت حرب حزيران 1967 و ما تمخض عنها من نتائج سلبية إلى خيبة أمل كبيرة ظلت تحفر عميقاً في وجدان أبناء الأمة العربية و لا سيما المثقفين الذين أدركوا أن الهزيمة لم تكن عسكرية فحسب بل كانت هزيمة حضارية أيضاً و أن محو آثار الهزيمة و النهوض من جديد يتطلبان إعادة التفكير في البنى الفكرية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية للمجتمع .
كما أدرك المثقفون العرب بعد حرب حزيران أيضاً ان العودة إلى الجذور ضرورية ليس من أجل تمجيد الماضي و الحنين الرومانسي إلى إعادته بل لمساءلة الذات من خلال مساءلة الماضي، و الوقوف على الخصائص المميزة و الهوية الخاصة.
وقد مهدت حرب حزيران لظاهرة توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة ما بذله بعض النقاد و الباحثين من جهود للعودة بالرواية العربية إلى تلك الأصول و الجذور التراثية بدلاً من ربطها بالرواية الغربية و قد وجد هؤلاء الباحثون أن كتب التراث تنطوي على ألوان كثيرة من القصص كالقصص الدينية و البطولية و قصص الفرسان و الإخبارية و القصص الفلسفية .
لم يحظ كتاب قديم بالاهتمام و التقدير الذي حظيت بهما حكايات ألف ليلة و ليلة
التي تبوأت مكانة مرموقة في سلم الأدب العالمي و أثرت في كثير من الأعمال الفنية في العصر الحديث و تأسس عليها أعمال إبداعية كثيرة في المسرح و الرواية و الموسيقا .
حيث عمد الروائيون الأوائل إلى مراعاة ذوق القراء الذين كانوا من أنصاف المثقفين و الذين وجدوا في أعمال هؤلاء الكتاب ما يمتعهم و يسليهم بوصفها بديلاً للمؤلفات الشعبية التي عاشت في وجدانهم فترة طويلة من الزمن فخضعت الأحداث للمغامرات و الغرائب و العجائب و المصادفات و الاستطراد و التوسل بالحيل لبلوغ الغايات و الاستشهاد بالشعر و تأثرت الشخصيات بشخوص ألف ليلة و ليلة فبدت إما خيرة و إما شريرة لا يؤثر فيها الزمن و لا البيئة …من هذه الروايات رواية ليالي ألف ليلة لنجيب محفوظ و رواية ألف ليلة و ليلتان لهاني الراهب فاجعة الليلة السابقة بعد الألف لواسيني الأعرج و غيرها كثير
و قد تعددت طرائق الروائيين في توظيف ألف ليلة و ليلة فبعضهم أقام بناء روايته على بناء ألف ليلة و ليلة ووظفها بشكل كلي و بعضهم ضمّن روايته حكاية من حكايات ألف ليلة و ليلة في حين اكتفى بعض الروائيين بالإشارة إلى بعض الصور و الموضوعات
و قد وظفت الرواية العربية المعاصرة النص الديني بمصادره بالإضافة إلى توظيف الحديث الشريف و التراتيل الدينية و قد وظفت الرواية العربية المعاصرة النص الديني على مستويات عديدة كتوظيف البنية الفنية و استحضار الشخصيات الدينية و تصوير شخصية البطل في ضوئها و ذلك لأن التراث الديني في قسم منه هو تراث قصصي لذلك أفادوا منه في التأسيس لرواية عربية خالصة.
أيضاً للتراث الأدبي دور في فن الرواية فقد وظف بعض الروائيين الخبر و أدخلوه في الرواية نظرا للتشابه بين الرواية و فن الخبر من حيث أن كليهما يتميز بالقدرة على احتواء أجناس أخرى ولفن الخبر قدرة على تناول موضوعات متعددة و متناقضة كالجد و الهزل و احتواء فن الخبر على عناصر قصصية تقربه من فن القصة أيضا.
و لأدب الرحلة نصيب في الرواية إذ انتشرت الرحلة في التراث العربي انتشاراً واسعاً بفضل ما هيأه المجتمع من ميسرات كان لها أثر كبير في قيام الرحالة برحلات كثيرة شكلت ما يعرف باسم أدب الرحلة و تلتقي الرواية و الرحلة في أمور و تفترقان في أمور فكلتاهما تعتمدان النشر و تعرضان لحياة الناس و تصوران المجتمع و الواقع كما أنهما تشتركان في أهمية الوصف في كل منهما .إن اشتراك التراث والرواية في بعض الخصائص شكل حافزاً للروائيين و هم يسعون إلى تأصيل الرواية العربية ،وإلى توظيف هذا النوع النثري و محا ورته و البناء عليه .
أيضاً كان هناك توظيف لتراث البيئة المحلية إذ ظهر روائيون كثر التصقوا ببيئاتهم المحلية و استخدموا محتوياتها .
ثمة دوافع كثيرة وراء توظيف البيئة المحلية في الرواية العربية و منها الإخلاص في تناول البيئة المحلية للكاتب و رغبته في اطلاع الآخرين على البيئة التي تربى فيها و الحنين و الشوق إلى البيئة المحلية في حال كون الروائي مبعداً عنها أو بعيدا كما أن البيئة المحلية خامة حكائية وهكذا إذن توجه بعض الروائيين إلى توظيف التراث بهدف تأصيل الرواية العربية في الموروث السردي و تخليصها من أسر الرواية الغربية من جهة و إعادة قراءة التراث من جديد في ضوء المستجدات الراهنة التي فرضت على الذات مراجعة الماضي من جهة أخرى.
عفاف حلاس

المزيد...
آخر الأخبار