كتاب من حمص…أبطال «عطر الطين» في مهب الريح

«عطر الطين » هو الماء الذي رشته السماء فوق التراب ،فخبأته الأرض وأعادته منثوراً على خدود الورد ،هدية للنحل وللطاهرين ، بلل الثرى مسكاً والقلب عشقاً ..إنّه عطر الطين».
لعلّ هذا المقطع –الإهداء لرواية (عطر الطين )للروائي فؤاد حسن العلي يشي بمضمون الرواية أو بشيء رئيسي منه .
فالرواية تجري أحداثها في الريف الغربي لحمص ،على الحدود السورية اللبنانية ،وفي بلدة حدودية نظن أنّها بلدة الروائي «حديدة» ..القريبة من جسر قمار ونهر العريضة والحاجز الحدودي بين سورية ولبنان .
الجملة الافتتاحية في الرواية ،ببساطة مفرداتها وعفويتها والسرد بصيغة المفرد المتكلم ،تشكل عنصر جذب وتشويق ومصداقية تجعل القارئ يتمسك بالصفحات ويقرأ بشغف .نقرأ (ص7):
في مثل هذا اليوم منذ سنوات حزم عمُّ لي حقائبه وسافر إلى البرازيل …
إنّها بداية الفصل الدراسي الثاني من الصف السادس الابتدائي ..المعلمة أعطتني درجة وسط في مادة السلوك خلافاً لبقية رفاقي ..لم أشعر بأي نوع من الحقد على المعلمة لأنّها كانت على درجة عالية من الأناقة بالإضافة إلى كونها مذهلة في جمالها ..ولا أزال أجهل إن كنت أحبها كمعلمة أم عشيقة ..!
علاقة الراوي –التلميذ بالمعلمة أو لنقل العلاقة من طرف واحد كان لها أثرها على الأحداث لاحقاً .فالفارق العمري والثقافي والاجتماعي بين المعلمة وتلميذها الولهان ،كبير جداً .ويتطور الحدث عندما يكتشف الراوي –فراس –أنّ ابن عمه الذي يكبره بسنوات ومثله الأعلى –كمال – يحب المعلمة هالة حبّاً كبيراً .ولأن كمال مهرّب ولديه دراجة نارية كان ينقل المعلمة على دراجته إلى الطريق العام بعد نهاية الدوام المدرسي .والمعلمة متزوجة ولديها ابنة تقيم في حمص بينما عملها في البلدة الحدودية .زوج هالة يعمل في الجمارك ويعرف أهل المنطقة ..وتسوء العلاقة بينه وبينها فتصبح هالة مطلقة …وتتزوج كمال ،بينما يغيب زوجها عن الأحداث وكذلك ابنتها .
فراس يقيم عند جدته ،والجدة ،هنا ،رمز لجيل صلب قوي الإيمان بالمثل و الأخلاق وهو في صراع مع الجيل الجديد –فراس وكمال –فلا الجيل الجديد استطاع أن يتقبل الجيل القديم بأفكاره وفضيلة عشقه للأرض وصلابته في مقاومة الاستبداد من إقطاع ورأسمال ولا الجيل القديم استطاع أن يتقبل الموبقات الكثيرة للجيل الجديد ..على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي و خاصة في هذه المنطقة الحدودية لجهة الإهمال للعلم والثقافة والأرض ..بسبب آفة «التهريب » التي تغري بالحصول سريعاً على الثروة مع أنها خطيرة وخطرة على الإنسان والوطن .فالتهريب ،مفردة لها أنياب وسم وتتفرع عنها مفردات وأمراض قذرة مثل (الرشوة –الخيانة ،المخدرات الدعارة ،الكذب ،الاحتيال …الخ ).
كمال مهرب وثري ،يأخذ هالة إلى لبنان أو قبرص ….ويحقق فراس أمنيته فيصبح مهرباً كبيراً وثرياً ..سيارة وبيت ..وتصريف عملات …الخ .ويتولى في لبنان إدارة مكتب لتصريف العملات لسنوات ..وتأتي امرأة تشبه المعلمة هالة ..كأنّها صورة طبق الأصل عنها ..ومعها زوجها العجوز السبعيني الذي يكبرها بخمسين سنة وأكثر..!!ويستيقظ حب المعلمة هالة لدى فراس عندما يرى شبيهتها رنا .وبعد فترة تأتي رنا وحدها فقد مات زوجها العجوز تاركاً لها ثروة ومنزل وسيارة في دمشق .يلتقي فراس ورنا ويتزوجان .تتماهى هالة مع رنا في خيال وذاكرة فراس بسبب الشبه الكبير بينهما …!!ورنا على درجة كبيرة من الثقافة والوعي ..ويأتي خالد ثمرة الزواج بين هالة وفراس وعندما يعودان إلى البلدة الحدودية يستمر فراس في عمله كمهرب كبير .يلتقي المعلمة هالة –زوجة ابن عمه –ينقلها بسيارته إلى حمص..تلاحقه دوريات مكافحة التهريب ..تنقلب السيارة ..يسعف مع هالة إلى المشفى ..هالة تفقد الذاكرة وفراس يخرج من المشفى إلى السجن حيث يحكم عليه لمدة ستة أشهر .
يأتي كمال من الخارج ..يذهب للمشفى يجد فراس ورنا والطفل خالد …يطلق النار على هالة لأنه يعتقد أنها تخونه مع ابن عمه ..فتقتل هالة ويقتل الطفل خالد ..في الصفحات الأخيرة يكتشف فراس والناس انّ هالة هي والدة رنا …!!.وكانت هالة قد اشترت أرضاً واسعة وزرعتها بأشجار الفاكهة وبنت قصراً بثلاثة طوابق ..فيه مطعم وحديقة للأطفال وألعاب ..لكنها اكتشفت أنّ المطعم بات ملتقى للمهربين في المنطقة …!!
فراس يجد نفسه يدلق زجاجة السم في جوفه .فيموت ..!!
وتنتهي الرواية بنهاية أبطالها :فراس ورنا وهالة ..والطفل الذي يرمز إلى قتل الحلم الفتي …!!
الأحداث تتطور وتتشابك لتصنع الحدث الأكبر ..الحبكة الروائية الرئيسة.
هذه الرواية المدهشة لعدة أسباب منها الفنية ومنها الفكرية ،تثير أسئلة كثيرة منها :هل أراد المؤلف الروائي فؤاد حسن العلي لأبطاله الموت من منطلق أنّ المرحلة التي يمثلونها كانت كارثية بكل المقاييس ؟! هل أبقى على رنا لأنها رمز جميل ونقي للوطنية والطهر ؟!هل يريد القول إن منظومتنا القيمية والاجتماعية تحتاج إلى إعادة النظر بمكوناتها من أجل ألاّ تتكرر المآسي ..!!
وهل أراد القول إنّ لاستثمار كل شبر من أرضنا أهمية كبرى في تطورنا الاقتصادي كفعل مادي ،وكفعل معنوي لأن العودة للأرض تعني العودة للجذور والأصالة ..هذه الأسئلة وغيرها جاءت عبر سرد روائي باذخ في جماليته ..وثمة عنصر مدهش أيضاً هو هذه اللغة الموحية وتلك الصور والخيال والوصف ..كل هذا ،يجعل من الرواية ،عملاً إبداعياً يكرس صاحبه روائياً يكسبه المشهد الثقافي في حمص ..بل وفي سورية ..وله روايتان قبلها هما :رحلة مابين الحب والحرب وجريمة في خمار .
ولعلنا قبل أن نختم هذه المادة نقول: إنّ ثمة مآخذ على الرواية منها أنّ فراس يعترف لهالة بأنّه دبّر مقتل زوجها وأنه دبر غرق زوجها في البحر …وحسب أنّه قد مات لكن كمال نجا من الغرق و ظهر فجأة وحصل ما حصل .فالسؤال هنا كيف يعترف فراس ؟!! وهل كل مهرب مزواج وزير نساء ؟!!
وهل كل من يعمل في سلك الجمارك فاسدا ومرتشيا ؟!!
اعتقد أن الإجابة عن هذين السؤالين ليست في صالح الرواية ..ولكن هذا لا يقلل من شأنها كتجربة روائية مهمة .
عيسى اسماعيل

المزيد...
آخر الأخبار