صفعَة الصّوت بشدّة، في تلك اللحظة المأزومة، أحسّ الأب ألماً في خلايا جسده، وفي خلايا الزّمن كذلك. هالَه منظر الدمّ النّازف من جبين صغيره، الألم نبتَ في شرايينه فجأة، استسلم للأمر الواقع كعصفورٍ دهمَتْه – على حين غرّة – سكّينة حادّة..
ما بين أصابع الأب، وجبين الطفل، ترعرعَتْ موسيقى حالمة، حزينة، مؤلمة.. بسرعة البرق حمل الأب ابنه لأقرب طبيبٍ اختصاصيّ، قطبَ الطبيب الجرح، النّزف بالجبين توقّف، لكنّ النّزف في صدر الأب مازال يتقافز.. في البيت جلس الأب جنب ابنه؛ الابن راحَ في رقودٍ غيرِ مُستحبّ، عقل الأب تناسلَ أفكاراً لمحاكمة الطبيب، الذي طلب مبلغاً عالياً، ثمناً لقطبةٍ واحدةٍ بجبينٍ طفولي، قال الأب لنفسه بطريقة «المونولوج»: (أين احترام الطبّ للأطفال على وجه العموم)؟!
بأسفٍ بالغ، هزّ رأسه مراتٍ عدّة، أردف: (الطفولة، الضوء، الرّأفة، الاحترام، الحنان، الـ.. الـ.. كلماتٌ من خشبٍ، في سبّورات العالم الثالث، فهل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر…)؟!
الوقت راح يهمِي، يتناسل، الوقت ظهيرة، الأب بإجازته الأسبوعيّة، الصّمت كوحش خرافيّ، يعشوشب صدره الآن، لكنْ بضع كلمات غزتْهُ فجأة: (لو قلتُ للطبيب: أين احترامُك لبراءة الطفولة، وشرف المهنة، وقسم «أبو قراط»، لاسترَحْت)!
الأبُ المنزعج المقهور، رسم ابتسامة مُصطنعَة على شفتيه، وهو يستقبل زوجته الآيبة من العمل، لفتَ انتباهها نومُ الصغير، هذا ليس من عادته، قالت مخاطبة زوجها:
– لِمَ هو نائم يا عدنان؟، إنه ينتظرني حتى أعود، إنّه يفرح بعودتي؟
– في المدرسة كان نشيطاً اليوم، لعبَ مع أقرانِه طويلاً، أنهكه التعب، نام.
هذه الكلمات لم تقنع الأمّ بها، دخلت غرفتها لبعض الشؤون.. وجه الطفل كان مُغطّى بقماشٍ غيرِ شفّاف، الأمّ للوهلة الأولى لم ترَ الجبين المقطوب، أو أنها كانت على بعد أمتار، لم ترَ وجه ابنها بوضوح.. الغطاء بغتةً ارتمى عنْ وجه الصغير، بضربة منْ يده، بانَ الجبينُ المقطوب، دخلت الأمّ، حيث صغيرها النائم، بألمٍ صاحت:
– يا عدنان، ما به، كيف حصل هذا؟ متى؟ مَنِ الذي ..؟
بعض الدموع تلامحَتْ بعينيها، كلّ إشارات الاستفهام والتعجّب عقدت بصدرها اجتماعاً مصيريّاً، تريد إجاباتٍ شافية لها…
وقتها شعرَتِ، أنّ العالم يرتفعُ فيه غبارٌ خانق، يلولبُ ساحاتِه وأزقّته، وأنّ أصابع قويّة تضغط عنقها بقسوة… وكي يخفّف الزّوج منْ وجع الموقف، شرح لزوجته حقيقة ما حصل، كيف أنّ الصغير «سنان» انسلّ خارج المنزل، منْ غير أنْ يعلم به، هبط درج البناية، وقعَ هناك، وكان ما كان.. ندّت عن الأمّ لفظة «حبيبي»… قفزت قطّة البيت الشقراء إلى الطاولة، نزلَت، اقتعدت الفِراش جنب أمّها، ماءَتِ الصغيرة بصوتٍ كمُناغاة، تكوّرَت على نفسها، واضعة رأسها في بطنها، غفَتْ بطمأنينةِ طفلٍ، عرَف أنّ أبويه قربه.
ليلتها، مُسهَدةً ظلت الأم، لا يُغمض لها جفن، ممرّضة ناجحة كانت، شقيق «سنان» الأكبر، تأثّر هو الآخر ممّا جرى لأخيه، يومها لم يصرف ابتسامة طفليّة واحدة، نام بتلك الليلة، وعشرات الصور الحزينة، كانت تحترب بصدرِه المُنمنم…
* * *
قبل سفر الأسرة بأيام شُفِيَ الجرح..
الأب كان معلّماً مُعاراً، بإحدى مدارس العاصمة اليمانية «صنعاء»، إنّه من قطر عربيّ شقيق، الأم كذلك كانت معلّمة.
بعد إجازة الصيف، مُنفرداً عاد الأب دون الأطفال، دون الزوجة.. كان وصوله من المطار إلى البيت عصراً، فتح باب البناية المُغلَق، استقبل الدّرجُ عينيه بتكشيرةٍ خبيثة، ندّت عن الأب لفظة «يا صغيري»، وهو يصعد بضع درجات.. جملة من التداعيات كانت تتدافع في عقله، فجأة توقّف، تسمّر بمكانه، نهشَتْه مفاجأة غير مُتوقّعة، صاح بصوتٍ مسموع، يا الله، ما هذا؟ أهذا، أهذا، أهـ..؟
الحقائب بين يديه توجّعت، تلعثمت.. تجمّد الدمّ بعروقه، صار ثلجاً.. ثانية نده «يا صغيري».
أمامه الآن وبلمح البصر، ارتسمَت صورة الجبين النّازف، وجهَ ابنه الصغير، وكلّ الأجبنَة النّازفة، والقلوب المدمّاة؟ السائق الذي أوصله إلى مدخل البناية، أخذ أجرته وانطلق لو عرَف أنه ما زال مكانه لاستنجدَ به: بقعة دمٍ مُتخثّرة، يابسة، استوقفتْهُ.. يومَ مسح الدرج قبل السفر، لم ينتبه إليها، بقيت علامة رامزة إلى جبين طفلٍ، وقع على الدّرج يوماً.. يكاد الأب الغريب، يصرخ وجعاً منْ سِياط تنهال على جسده، لكنّ صرخته تتجمّد عند الشّفتين..
صعد الأب الدّرج، دموعٌ موجعةٌ، تهمي من قلبه وعينيه، رغماً عنْ كلّ رجولة بصدره.. بصمتٍ باكٍ، له ملوحة البحر، وضع حقائب السفر بأوّل غرفة تلقّفتْه، أخذ قطعة قماش، بلّلها بالماء، وبسرعةِ نيزكٍ سماويّ، نزلَ، مسح تلك البقعة «السّنانيّة» المُضيئة، المُتخثرة، لكأنّها تقول: «دمُ الأطفال لا يُمحَى بسهولة، دمُ الأطفال يتخثّر، لكنّه يبقى على مرّ السنين مناراتٍ ساطعة في القلوب الحيّة»!!
وجيه حسن
المزيد...