عندما انتشر خبر الرائحة الكريهة التي تنبعث من دار أبي بدر هرعت مع بعض الناس إلى الدار كسرنا قفل الباب الخارجي ثم كسرنا قفل باب غرفته التي اعتاد أن يسكن فيها كان المشهد مرعباً و جدناه فاغر الفم جاحظ العينين وأسراب النمل بأعداد هائلة تستبيح جثته حيث راح النمل يدخل ويخرج من فتحة فمه وفتحتي أذنيه مشهد فظيع لن أستطيع نسيانه .
كان جثمان أبي بدر خفيفاً و هكذا أصر بعض الشبان على الانفراد بحمله أما نحن أصدقاؤه العجائز فقد مشينا وراء الجثمان مطأطئين رؤوسنا و بعضنا شارك في حمل النعش بضع خطوات ابتغاء الثواب كنا بضعة عشر شخصاً لا أكثر تبادلنا عبارات العزاء قبل أن ندير ظهرنا للمقبرة التي أودعنا فيها صديقنا الجميل كما كنا ندعوه ولعل كل واحد منا كان يفكر أنه في يوم آت لامحالة سوف يحمل إلى مثواه الأخير في هذه المقبرة .
قبل ثلاثة أشهر عاد أبو بدر من أمريكا حيث أقام عدة سنوات عند ولديه و زوجته فبعدما تقاعد من عمله كمعلم لحق بهم بسبب إصرارهم على ذلك ،كان يفخر رحمه الله بأنه أمضى أربعين سنة كمعلم صف في عدد من المدارس حتى استقر به الأمر في مدرسة القرية الابتدائية و عندما عرض عليه أن يكون مديراً للمدرسة رفض الأمر بشدة قائلاً إنه لا يجد نفسه إلا في غرفة الصف برفقة السبورة و الطباشير و التلاميذ .
كنت أزوره بين حين وآخر في منزله الواسع ذي الغرف العديدة التي تطل على فناء الدار حيث العريشة الكبيرة و شجرة الورد الشامي و شجرة التوت الشامي أيضاً و كان يعتني بهذه الحديقة فتراه يسقي الأشجار و يحفرها و عندما سألته ذات مرة لماذا عاد إلى الوطن أجابني بذكاء « لقد قلت وطن كلمة واحدة في سؤالك هي الجواب ،هنا وطني هناك أنا مهاجر مغترب و غريب الوجه و اليد و اللسان ..»
أخبرني قبل أسابيع أنه يحس بدنو أجله و أنه يواظب على تناول الدواء و هو يشعر بالرضا لأنه سيموت في وطنه و يوارى في ثراه ..!!
كنت أتبادل معه المزاح أحياناً فأقول له :
«ما رأيك أن نبحث لك عن زوجة …. فأم بدر لم ترجع معك .. ولا يجوز أن تبقى وحيداً..؟!!».
وكان يضحك ويقول :« لقد فات الأوان … فات الأوان يا أبا عبدو .. أريد حسن الختام ..!!»
ولعل قصة عمله في المهجر ، هي الأكثر وجعاً في حديثه عن الغربة . فقد اقترح ولداه وزوجته التي هاجرت مع ولديها قبل أن يلحقهما بسنين عديدة ، أن يعمل حارساً ليلياً للمتجر الكبير الذي يمتلكونه ، فيتقاضى الراتب الذي يتقاضاه الحارس المعتمد .. والأقربون أولى بالمعروف .. وما عليه عندما يحس بخطر ما إلا أن يضغط على جرس الإنذار الاحتياطي ، لأن الجرس الأساسي ربما يعطله السارق أو السارقون المنتشرون بكثرة في تلك الولاية .
التحق بعمله وكان ينام في المتجر .. وفي الصباح يعود إلى البيت بعدما يحضر ولداه وعمال المتجر .. ليبدؤوا عملهم .
بعد يومين أو ثلاثة من رحيل أبي بدر ، كنت مستغرقاً في النوم ، وكان الوقت بعد منتصف الليل… أيقظني رنين الهاتف .. نهضت متثاقلاً إلى زاوية الغرفة .. رفعت السماعة .. وجاء الصوت من الطرف الآخر :
« عمي أبو عبدو .. أنا بدر.. أرجوك أن تعرض بيتنا للبيع .. لا حاجة لنا به .. سأرسل لك وكالة رسمية .. المرحوم كان يثق بك .. ونحن كذلك .. وأرجو أن تحول ثمنه إلى الدولار وترسله لنا…» .
عيسى اسماعيل
المزيد...