في صباحٍ مُوَشّى ببعضِ الغيومِ السُّود، التي تُنذرُ بهطولِ المطر، ركضَتِ الطفلةُ “نداء” ابنةُ السنواتِ الخمس، ناحيةَ الجارِ صاحبِ الرّوضة، الذي وصلَ بسيّارتِهِ حالاً، كانَت تمسكُ بيديها الطريّتين رغيفاً من الخبزِ الحاف، تلتهمُه بتلذّذٍ وانهماك.. وقفَتِ الصّغيرةُ قربَ بابِ السّائقِ تماماً، رفعَت يدَها بالسّلام، بدا في وجهِها بؤسٌ واضحٌ، ورجاءٌ مُلِحٌّ.. أنزلَ الرّجلُ زجاجَ سيّارتِهِ القريبَ منه، قرأ في عينيها العَسليّتين ما غايتُها من الاندفاعِ نحوَه بهذهِ السّرعةِ العاليةِ، مدّ يدَه إلى محفظةِ نقودِه، ناولَها قطعةً نقديّةً منْ فئةِ المِئتين، طالباً منها الذّهابَ إلى منزلِ أمِّها في الحال.. لم تستجِبْ “نداء” لطلبِ السّائق، بلِ انطلقَت إلى جهةٍ أخرى، كانَ السّائقُ صاحبُ الرّوضةِ يتابعُ تحرّكاتِها منْ خلالِ مرآةِ سيّارتِه، غايتُه أنْ يعرفَ إلى أيِّ وُجْهَةٍ تنوي الذّهاب.. انطلقَتِ الصّغيرةُ في جريها مثلَ عصفورٍ خفيفِ الحركةِ والطيران، مُتنقّلاً منْ غصنٍ إلى غصن، ثمّ ما لبثَتْ أنْ وضعَت بقيّة الرّغيفِ على كيسٍ برتقاليِّ اللون، كانَ مرميّاً على بابِ أحدِ الجيران، وأكملَت طريقَها بسرعةِ نيْزكٍ سماويٍّ منطلقٍ.. ظلَّ السّائقُ قابعاً داخلَ صندوقِ سيّارتِه، يريدُ معرفةَ الجهةِ التي ذهبَت إليها “نداء” بقطعةِ النّقود! لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى ظهرَتْ الصّغيرةُ، وهي تعودُ أدراجَها ببطءٍ واضحٍ، تمدُّ يدَها إلى داخلِ كيسٍ طُبِعَتْ عليهِ صورٌ مُزَرْكَشَة، حوَى قطعاً من الشّوكولاتةِ بُنيّةِ اللون، كانَت تلتهمُها بتلذّذٍ بادٍ، وسعادةٍ غامرة.. لمّا وصلَت إلى قطعةِ الخبزِ المُتبقّية من الرّغيف، التي تركَتْها فوقَ الكيسِ البريقاليِّ اللونِ، لم ترَها، لأنَّ قطةً كبيرةً سوداءَ اللون، كانَت تلتهمُها على الضفّةِ الأخرى من الشارع الطويل، فتركَتْها وشأنَها.. وقتَها أخذَتِ الصّغيرةُ دربَها تُجاهَ منزلِ أمّها وأخواتِها الثلاث، أمّا أبوها، كما يعرفُ الجارُ صاحبُ الرّوضةِ مُسْبقاً، فقد ماتَ خلال الحربِ برصاصةٍ غادرة، فعاشَتِ الأمُّ الأرْملُ معَ بناتِها الصّغيراتِ قسوةَ الحياة، ومتاعبَ الفقر، ولذا لمْ يكنْ بالإمكانِ تسجيلُ ابنتِها “نداء” في أيّةِ روضةٍ خاصّة، لأنَّ الحالةَ الماديّةَ سيّئة، ولأنّ أقساطَ رياضِ الأطفالِ لا ترحم، منْ هنا فقدْ بقيَتِ الطفلةُ البريئةُ “نداء” تلهو في عرضِ الشارعِ وطولِه، أمامَ بيتِ أمِّها، وقربَ نوافذِ الرّوضةِ القريبةِ، وهي تسمعُ بأسَىً وألمٍ بادِيَيْن، المعلمةَ “صفاء”، وهي تردّدُ على مسامعِ الأطفالِ النّشيدَ التالي:
(عُصْفورَةٌ خَضْراءْ
طارَتْ أمامَ الرِّيحْ
فَلفَّهَا الفَضَاءْ
بِثوبِهِ الفَسِيحْ..
قلْتُ لَها: توقّفِي
يا طائِرِي الجَمِيلْ
وعلّمِينِي
كيفَ يا عُصْفُورَتِي!
أَكْبَرُ كالنَّخِيلْ..
تَبسَّمَتْ
قالَتْ: تَمَنَّ واجتَهِدْ
يا قَمرِي المُنِيرْ!
وَرَفرَفَت تَطِيرْ)..
حينَ سمعَت “نداء” النّشيدَ الحلوَ، انطلقَت صَوْبَ أمِّها قائلةً لها ببراءةٍ مُتناهِية:
- ماما ماما أرجوكِ سجّلِينِي في الروضةِ فقد كانَت كلماتُ النّشيدِ التي سمعْتُها حلوةً حلوة..
- اللهُ كريمٌ يا غالِيتي..
وطلبَتِ الأمُّ منِ ابنتِها “نداء”، أنْ تغسلَ وجهَها ويديْها بالماءِ والصّابونِ، لأنَّ طعامَ الإفطارِ قدْ صارَ جاهِزاً..
وجيه حسن