ليس لأفكار الإنسان حدود يقف عندها فهو يبحر في المدى مؤطرا غاية الحياة بتفاصيل تقدمه وتطوره في جميع المجالات لذا يجتهد ليرسم لوجوده معنى منزها عن التبعية ويبتعد قدر المستطاع عن الترهات .. هذا في المأمول لكن الواقع بتناقضاته المؤلمة يقيد حدود التأمل ومع ذلك نرى أغلب الناس لا يقفون عند حدود التساؤل والبحث عن الأفضل لحياتهم وعن كل ما يرتقي بأفكارهم وحكمتهم وتوقهم للمعرفة لكن ارتقاء الفكر وتراكم المعرفة بجميع أبوابها لا تؤدي دوما إلى ارتقاء أخلاقيات الإنسان وقيمه .. إذاً على الإنسان المتعلم أن يفجِّر لدينا المشاعر السامية وأن يجعلنا على درجة نبيلة وفاضلة في ميولها وكمالها وجمالها وحقيقة أفكارها.. عليه أن يكشف لنا عن العادات الموروثة الجيدة التي تؤطر سلوكنا اليومي والسيئة ولاسيما التي تعيق تقدمنا ومن ثمَّ يخلصنا منها .. عليه أن يحرِرنا من التقاليد البالية التي تقع على عاتقه مهمة نبذها والابتعاد عنها.. عليه أن يجعلنا نسلك طريقَ الشكِّ وصولاً إلى اليقين وأن يُنظّم حياتنا وغاياتنا عبر سلوكٍ يرتقي بالعقل الذي نستعين به في نهوضنا الاجتماعي .. إنها الحقيقة التي دفعت أحد الفلاسفة للقول: (( لم نُخلق لنُحبس في ذواتنا لأن دموعنا تحتاج إلى آمالنا.. وأفراحنا أعظم مما تقتضيهِ سعادتنا )) . نعم إنها الحقيقة التي يُشقى من نبذها ونفرَ منها.. الحقيقة التي لايُريد كُثر ممن يدَّعون بأنهم من أهلِ العلم بأن يُمسكوا بفضائل مثلها الأعلى أولئك الذين قال عنهم / أفلاطون / : رجالٌ مخيفون ساقطون أحاطت بهم ظلمات الحياة وأبعدتهم عن مباهج العقل فنبذوها واشتروا بمَثَلِها الأعلى قليلاً من الخذلانِ والضعة . . لكن وإن كان ارتقاء الفكرِ لايؤدي دوماً إلى ارتقاءِ أخلاقِ الإنسان إلا أن بعض الأشخاص وخاصة عندما يجعلون عقولهم خالصة لحبِّ العلم الذي لايتجاوز ذاكرتهم ومنطقهم منطلقين باتجاهِ فضاءاتٍ لاينحصر فيها أفقهم .. في هذه الحالة يتخلَّص من كلِّ ما بإمكانه أن يجعل عالمه يمورُ اضطراباً في تصوراته المستقبلية .. إنها التصورات التي تفوق ما يراهُ في الواقع الذي يعيشه والذي عليه أن يتجاوزه في تطلعاته الأكثر حرية وعلمانية وعقلانية من ضيقِ عالمه ومحدودية تنقلاته .. كل هذا لا يعني بأنه من الضروري أن ينسلخ أهل العلم عن بيئتهم وزمانهم وأفكارهم وفنونهم ذلك أن عليهم الإفادة من كل هذا بالإرادة والتأمل والثقافة لا بالانقيادِ أو الاستسلام وإتباع طرق لا تمت لحياتنا بصلة تذكر ..
علي عباس
المزيد...