في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما أقدّر، فأنا لا أثق بذاكرتي الرقميّة كثيرا، .. كنتُ مديرا لنادي نقابة المعلّمين بحمص، وكانت حمص تعجّ بالنشاطات الأدبيّة والفكرية والشعريّة والفنيّة، وكانت، كما قيل فيها من قِبل مَن دُعوا إليها، عاصمة الثقافة في سوريّة، بل لم يكن في الوطن العربي ما يوازي نشاطاتها، وأبناء ذلك الزمن يذكرون ذلك جيّداً، مدّ الله في عمر من بقي منهم بصحّة وعافية، وكنتُ أضع نشاطات هذا النّادي بالاتّفاق مع النقابة، وأنفّذها باتصالاتي الخاصّة، ودعونا عدداً لا بأس به من الأسماء اللاّمعة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، المرحوم الدكتور عبد الكريم اليافي، وجودت سعيد، والنّاقد نعيم اليافي، وعدد من أهمّ شعراء سوريّة، وفي طليعتهم الشعراء الحمامصة،
ذات ترتيب لنشاط اتّصلت بالمرحوم الأستاذ ندره اليازجي، وهو باحث جاد، وله مساهمات مهمّة ضدّ الصهيونية، ومزاعمها التوراتيّة، ..اتصّلت به حيث يُقيم في دمشق، ولم تكن بيننا أيّة معرفة سابقة، وردّ بصوته وهدوئه، فعرّفتُه على نفسي، وقلت له :” نريد محاضرة منك في مدينة حمص، بدعوة من نقابة المعلّمين فيها” فأجاب بالهدوء ذاته، وبطريقة غاية في اللطافة:” ولكنّني منذ زمن لم أسافر خارج دمشق”، قلت:” وإذا قلتُ لك أنّنا نريدك أن تساهم في نشاطاتنا”، صمت قليلا وقال:” ماهو الموضوع”؟ قلت:” لك أن تختار أيّ موضوع تريد”، سألني :” عن الزمان الذي سيُقام فيه هذا النشاط”، فأبلغْته بتاريخه، وفي أيّ ساعة يُقام، والمكان الذي سيستقبله، فقال” اتّفقنا”، وكانت نشاطاتنا تُقام إمّا في صالة الطابق الثالث، أو في صالة الطابق الأوّل، وكلتاهما واسعتان، وبعد أيام اتصل بي المرحوم الأستاذ ندرة، وأملى عليّ عنوان المحاضرة، وكان في عنوانها شيء له علاقة بـ” التوراة والصهيونيّة”، وفي اليوم المحدَّد استقبلناه، وكان معه ضيفان آخران جاءا معه من دمشق يرافقانه بسيارة لواحد منهما، وليعودا به إلى دمشق بعد انتهاء المحاضرة، وقدّمتُه بما يليق بقامة فكريّة، وطنيّة عالية، ولفتني وجود عدد من رجال الدين المسيحي، ومنهم كاهن أقام في حمص سنوات، كان يلقّبه عارفوه بالفيلسوف، وأنا عرفتُه في مناسبة فزارني في بيتي، ومن عجب أنّه بشّر بانهيار الاتّحاد السوفياتي، والذي كان يبدو في أوْج قوّته آنذاك، قدّم الأستاذ اليازجي محاضرته، بهدوء، وعمق، وتماسك، وبلغة رزينة نظيفة ليس فيها كلمة جارحة، وبحرفيّة معلّم يتحدّث عن موضوع من اهتماماته الجادّة، وكان من تقاليد جميع أنشطة حمص، حيث تُقام، أن يُفتَح باب للمناقشة، وكنتُ أدير الحوار لضبطه، وكي لا يخرج عن إطار ما يجب أن يظلّ فيه من لباقة، وعدم استفزاز، .. قدّم محاضرته، وفتحْنا باب النقاش، ولم أعد أذكر شيئا من النقاشات التي دارت ، وبعد انتهاء المحاضرة دعيتُ الأستاذ اليازجي ورفيقيه إلى بيتي، حيث تناولنا العشاء، وفي ذلك الوقت القصير الذي استضفتْه فيه، نشأت بيننا أُلفة، تحوّلت إلى صداقة وأصبحت كلّما سافرتُ إلى دمشق، وأُتيح لي، أزور ذلك المبدع رحمه الله، وكان ممّا قاله لي :” هل تعرف سرّ تلبيتي لإلقاء محاضرة في حمص”؟!! قلت:”لا”، قال:” صوتك، ما أن سمعتُه حتى شعرتُ بألفة عجيبة، فقلت صاحب هذا الصوت يجب أن يُلبّى…
عبد الكريم النّاعم