يطالعنا الشاعر : عبد الكريم النّاعم في مجموعته الموسومة بـ : (حصاد الشمس)
بـ عنوان قصيدته : (صلاة غائب على جنازة حاضرة ) وهو عنوان يعتمد التداعي الترادفي من خلال أربع كلمات تنتمي إلى حقول دلالية متباينة ، إذ تنتمي مفردة : (الصلاة) إلى حقل العبادة فيما لفظتا : ( حضور وغياب ) متضادان ينتميان إلى حقل الدلالة الخاص بحالات الإنسان في الوجود ، بينما تنتمي كلمة (جنازة ) إلى حقل الموت
تقوم البنية اللغوية في هذا العنوان على تركيب إضافي : (صلاة غائب ) وآخر وصفي : (جنازة حاضرة ) وهما تركيبان اسميان ، والاسم يفيد في دلالته على الثبات والسكون ، وهو ما يتساوق ، والموقف الوجداني المُعبَّر عنه في العنوان الذي جاء بأسماء نكرات ، ليفيد التعميم والشمول وفق تراتبية ضدية اعتمدت قطبي الحياة : المذكر والمؤنث في ملمح إلى أن الحياة إنما تقوم على هذه المعادلة التي عبَّر عنها الشاعر في هذا المشهد الحياتي الذي يمكن أن يعيشه المتلقي ، وقد توَّج العنوان دلالياً ، ليؤكد أولاً الحالة النفسية التي تُعبر عن الخشوع والجلال ، وهما من مقتضيات الصلاة ، فيما جاء لفظ الـ ( غائب ) ليوحي بحالة الفقد التي أقيمت الصلاة من أجله ، فيما يتوسط حرف الجر ( على ) الدال على الاستعلاء بين التوصيفين : صلاة غائب / جنازة حاضرة ، ليكون عنصر الربط بين المفردات المتناقضة على المستوى الظاهري ، بينما هي تقوم على التكامل على مستوى التأويل والحقيقة ، إذ إن كل دالّ يستدعي مصاحبه اللغوي ، فدال التركيب الأول يستدعي مصاحبه اللغوي في التركيب الثاني ما يعني علاقة تكامل وتلازم اتخذت من الثنائية الضدية أساساً تُبنى عليه ، ومساراً تسعى من خلاله في تحقيق ارتقاء التركيب الكلي من الكلام العادي الذي يمكن أن نسمعه في يوميات حياتنا المعيشة إلى درجة عالية من الشعرية ، كما أن استخدام صيغة اسم الفاعل هنا لها دلالتها التعبيرية ، آية ذلك أن الشاعر استخدم اسم الفاعل في غائب وحاضرة ، ليحقق فاعلية كل منهما على سبيل التضاد الذي أفضى إلى التكامل ، فيما أفادت كلمة : ـ (غائب) النفي أفادت كلمة (حاضرة) الإثبات ، ويمكن إيجاز الثنائية الضدية في هذا العنوان بــ ثنائيات : الموت بدلاً عن : (جنازة ) / الحياة بدلاً عن : (صلاة )،
الغياب / الحضور بدلالة الصيغة الاشتقاقية التي جاءت بزنة اسمي الفاعل : غائب وحاضرة ، و هما يشيران إلى ثنائية : التذكير / التأنيث ، وبذلك التناقض الظاهري استطاع الشاعر أن يحقق الانسجام على مستوى تكاملية التركيب بما أسبغه عليه من انسجام وترابط منطقي بين الحدثين والمُحْدِثَين معاً.
أما عنوانه في قصيدته المعنونة بــ : (نبتة في صحراء اليأس ) من الديوان نفسه
فإن ما يستوقف المتلقي فيه حالة التضاد بين طرفي العنوان الذي نهض على بنية لغوية اعتمدت حالة الثبات والسكونية ، وبذلك الثبات أحال الشاعر متلقيه على جمود المشهد الموصوف ، وانعدام حركية الحياة فيه ، وهو ما عبَّر عنه من خلال خبر حُذف مبتدأه ، إذ المقصد يتجه إلى الإبلاغ عن هذه النبتة التي تبدو منقطعةً عن مثيلاتها من فصيلة النبات لانعزالها في أرض تبعث هي الأخرى على إثارة دهشة المتلقي ، ليكون المكان الذي يختاره الشاعر ، لإنبات هذه الــ (نبتة) ، وهو (الصحراء) بما ترمز إليه دلالة اللفظة من جدب وزوال حياة ، صحراء خيال شاعري جاءت على سبيل المجاز ، لا الحقيقة ،وبإدخالها في صياغة التركيب الإضافي فقد منحها الشاعر حمولات جمالية وطاقات تعبيرية استطاعت أن تلغي ما يمكن أن يتموضع في مصاحبتها اللغوية عبر انزياحها عن المتعارف عليه ، والمألوف بما يكشف عن هوة الحالة النفسية التي يشعر بها الشاعر ، وهو يحاول أن يجمع بين قطبي الوجود المتناقضين من خلال استحضار ما هو حي : (نبتة ) إلى حضن ما هو باعث على الموت : (صحراء ) وفي هذا الجذب بين المتناقضين الذي يؤسس له الشاعر باستخدام التنافر الدلالي إنما « يعمد إلى خلق التنافر داخل تراكيبه ، و يفرض على القارىء أن يتحرك داخل التنافر، ليكشف المخرج من داخله ، وهو بذلك يلفت نظر القارىء إلى أن التنافر هو الطريق الوحيدة التي تؤدي الدلالة المقصودة بطريقة شعرية حقاً ، إذ لا مجال للتنافر داخل الكتابة النثرية التي تتميز وقابليتها على أن تسمح بإبراز مكنوناتها بعيداً عن أي التواء أو انحراف عما هو منطقي وراء هذا الربط ، وتخلخل المعهود والسائد ، وهي مهمة الشعر التي تحاول أن تقفز نحو مجاهيل العلاقات المتنافرة ، لتخلق لغتها الجديدة فـإن َّ: (القدرة الشعرية كفيلة بالتفكير بما هو متناقض ، والعمل على مزجه وتوحيده ) ،وهو ما يتبدى لنا في عنوان الشاعر السابق الذي جمع بين المتناقضات ، فزرع الــ : ( نبتة ) في مكان لا يتوقعه الذهن ، ما يُحقّق للصحراء دلالتها التي تنأى عن تموضعها الموضوعي بتعبيرها عن أحد مُسميّات المكان الجغرافي ، لتتحوّل إلى بُعدٍ ذاتي يرتبط بالحالة النفسية التي يحياها الشاعر ، والموقف الانفعالي الذي يُعبّر عنه .
د. وليد العرفي
المزيد...