سأفتح باب الذاكرة، وموجة البرد القطبيّة تقطّب حواجب أكثر الناس ابتهاجا، من أمثالنا، فأنا أتحدّث عمّن يشبهني، أمّا الذين لايشبهونني، أعني الذين لايعانون من شحّ الغاز، وفقدان المازوت، والذين تأتيهم حاجاتهم و تسعى إليهم، فأولئك شيء آخر..
ما سأحاول التركيز عليه يعود إلى منتصف أربعينات القرن العشرين، ففي تلك الأرياف التي تغيّرت ملامحها، بل وتغيّر الناس فيها، بسلوكهم، وفي طرائق تعاملهم،.. كانت المادّة الوحيدة للتدفئة، في الريف الذي أعنيه هي ( الجَلّة) بحسب لفظهم لها، بينما صوابها، كما توحي بعض كتب اللغة هو (الجِلّة) والذي هو البعر، بيد أنّ الفلاّحين، في المناطق التي ليس فيها أشجار ولا أحراش، أطلقوا الاسم على روْث البقر، فكانوا يجمعونه، ويمزجونه ببعض مخلّفات التّبْن، ويلصقونه على حيطان الدّور، فإذا مررتَ بقرية من قرى ذلك الزمان ستجد حيطانها مرصوفة بتلك الأقراص المدوّرة، والمُفلْطحة، ويتركونها حتى تنشف، فيتّخذون منها وقيدا للطبخ، وللتدفئة.
ثمّة حادثة طريفة حدثت في قرية «تلدوّ»، قبل أن تصبح بلْدة، في مطلع ستينات القرن الماضي، أوائل ثورة الثامن من آذار 1963، فقد اتُّخذ قرار بإنشاء بلديّة فيها، وهذا يعني أنّ البلديّة سوف تمنع الناس من وضع الجلّة فوق الجدران، واعتبرها البعض كارثة، وطالبوا بعدم إحداث البلدية .
الجلّة في تلك القرى كان يُبنى لها بيت مخروطي توضع فيه، وتخزّن، ويسمّونها« الشّونة» وكثيرا مااعتمد النّاس على شراء ( المَراح) من راعي البقر، و(المَراح) هو المكان الذي ترعى فيه الأبقار وترتاح فيه، فهو مليء بذلك الرّوث، يشتريه صاحب الحاجة من راعي البقر، وبعد أن يجفّ ينقله إمّا بواسطة الدّواب، أو تحمله النّسوة على رؤوسهنّ في أكياس، وعلى لهب هذا الرّوث تُوقَد التنانير، والمواقد، وتُحفَر في وسط البيت ( نُقرة) يشعلون فيها الجلّة ليشيعوا شيئاً من الدّفء، في شتويات تمتدّ أمطارها، وثلوجها، وجليدها على مدى فصل الشتاء.
ثمّة وسيلة أخرى للتدفئة وهي أن يُمدّ لحاف يُدخل الساهرون تحته أقدامهم، ويسمرون مع دفء الحكايات، والسّير.
أمّا في المدينة، وقد عشت الزمنين كليهما، فكانت وسيلة التدفئة هي الفحم، ولا بدّ للبيت من وعاء يسمّونه ( كانون) ، وهو غالبا من النّحاس، يوضع الفحم فيه، وبعضه مصنوع من طين خاص، ويشعلونه خارج البيت حتى تتورّد جمراته، ويُحمل إلى الغرفة فينشر الدفء فيها، هذا كلّه كان قبل أن نعرف المدفأة، ولا شكّ أنّ حجم كوانين الفقراء أمثالنا يختلف عن حجم كانون أصحاب الثروة والمال، بيد أنّ للفحم خطورته إذا لم يتنبّه موقدوه له، فإذا كانت الغرفة محكمة الإغلاق، والإشعال ليس كما ينبغي، فقد يستهلك أوكسجين المكان كلّه، وقد يؤدّي إلى الوفاة، لاسيّما وأنّ من يتدفّأ لايشعر بذلك، بل ربّما شعر برغبة في النّوم، وقد حدث أن ماتت عائلات بكاملها نتيجة انتشار غاز الفحم، وعدم الانتباه لتهوية الغرفة.
كانت أيام البرد والشتاء أطول من هذه الأيام، وما أدري كيف كنّا نعبرها، فقد انقضى ذلك الزمن إلاّ من الذّاكرة، أمّا بعد أن أصبح المازوت، وجرّة الغاز من مستلزمات كلّ بيت، حتى بعض بيوت الشعر التي يسكنها البدو أصبح وجود الغاز فيها ضرورة يوميّة، فنحن أمام ما أصبحنا لانستطيع الاستغناء عمّا اعتدنا عليه، وما أدري ما إذا كانت الجهات المسؤولة عن الغاز والمازوت تريد تعويدنا على النقص الدائم لهاتين المادتين، كيلا يركبنا الطمع، فتتطلّع أعيننا إلى ماليس لنا…
عبد الكريم النّاعم