الأسطورة والإنسان المعاصر

تختلف الآراء في اختيار النموذج أو النمط الأولي – كما دعاه كارل غوستاف يونغ – الأكثر تعبيراً عن الإنسان المعاصر ففي حين يرى – رينر ماريا ريلكه – أن الإنسان المعاصر أقرب ما يكون إلى صورة – أورفيوس – وأرفيوس شاعر وموسيقي ، وهو ابن واحدة من آلهات الفنون وتدعى – كاليوب – من – أبو للو – الذي علمه الشعر والغناء فغدا واحداً من أعظم الموسيقيين ، وكان قادراً على تحريك الأحياء والجمادات حين يعزف ويغني . فالأشجار والصخور ووحوش البرية ترقص طرباً ، والأنهار تغير مجراها السبعة ، ولكن أورفيوس فجع بوفاة زوجته – يوريدس – بعد مدة قصيرة من زواجهما ، فحزن عليها حزناً شديداً. وتبعها إلى العالم السفلي – هاديس – وسمح له بعد توسل وتضرع أن يأخذها معه شريطة أن تتبعه دون أن ينظر إليها قبل أن يعودا إلى العالم العلوي ، الأرضي ، ولكنه لم يستطع إلا أن ينظر إليها وهو يسمع وقع خطواتها وراءه ففقدها إلى الأبد ، وقد فتكت به فيما بعد نساء هوج ومزقته ومازلنا نسمع شكواه في حفيف الأشجار وأنين القصب . ولكن عالم النفس النمساوي – سيغموند فرويد – يرى أن – أوديب – هو الأكثر محاكاة للإنسان المعاصر ، وأوديب هو من حكمت عليه الأقدار بأن يقتل أباه ويتزوج أمه دون أن يدري أن المقتول أبوه وأن زوجته هي أمه ، وعندما عرف الحقيقة فقأ عينيه لكي لا يرى كيف ينظر الناس إليه .
بينما يرى – كارل كيريني – أن – برومثيوس – يمثل الوجود الإنساني أصدق تمثيل وبروميثيوس هو والد – ديوكاليون – وأخ – أطلس – وقد علم الإنسان الكثير من الفنون .. وهو الذي سرق النار وأعطاها للبشر فعوقب بربطه إلى صخرة حيث كان يأتي إليه صقر كل يوم ويمزق كبده إلى أن أطلق هرقل سراحه .
ويرى – ألبيرت كامور – أن – سيزيف – وحده نموذج لعبثية الإنسان المعاصر وسيزيف – ربط بصخرة ، وحكم عليه بأن يوصلها إلى قمة الجبل ، وكانت تنحدر قبل القمة دائماً فتتدحرج إلى الوادي ، ليعيد الكرة ثانية وثالثة .. وهو إلى اليوم مازال يدفع بالصخرة إلى أعلى ومازالت تفلت منه وتتدحرج إلى الوادي .
وأخيراً يرى – رولو ماي- في كتابه : – الأسطورة والثقافة – أن : أوريست – يفسر الطبيعة المعقدة لمشكلة الإنسان المعاصر وكيفية علاجها .
فالمشكلة في نظره : كيف يمكن للإنسان أن يأخذ على عاتقه المسؤولية الأخلاقية وهو في الوقت نفسه لا يملك زمام أمره؟.. أوريست يبدد شكوكنا بالتمام . فهو يؤكد مسؤوليته في كل مكان من مسرحية – الأوريستيا – للشاعر و المسرحي اليوناني – أسخيلوس – إنه لا يقول : قدري هو المسؤول ، كما يقول الكثيرون بل يقول بشجاعة : أنا المسؤول .
وهاهي جوقة القوى الضارية تتحدث عن – أوريست :
اصغ إلى هذا ، ليس أنت فقط
بل كل روح فانية
تجاوزت كبرياؤها ذات مرة قانون الاحترام الواجب
تجاه الرب أو الوالدين أو الضيف
سوف تلقى جزاء عادلاً لا يرحم جراء إثمها
إنها بعض من نماذج أسطورية للإنسان المعاصر التي قد يكون الإنسان محاكاة لها جميعاً.

د.غسان لافي طعمة

المزيد...
آخر الأخبار