في العام الدراسي 1959-1960 نُقلتُ، بعد وساطة إلى بلْدة خان شيخون، عجّل الله عودتها للوطن الأم من أيدي الدّواعش، ولكي أرسم صورة مصغَّرة ، معبِّرة عما كانت عليه الأمور أسوق المعلومات التالية، للمقارنة، وللتفكّر، وللتأمّل والتّذكّر،
كانت أوقية اللحمة في ذروة غلائها بخمسة وستين قرشا، وفي بقيّة أيام العام لاتتعدّى خمسة وأربعين قرشا، وكان معلاق الذبيحة الغنم، بكامله غير منقوص بمائة وخمسة وسبعين قرشا.
أراني الآن أتحدّث كما كان يتحدّث آباؤنا وأجدادنا يوم كانت الأسعار بالقرش التركي، فوالدي رحمه الله وأمواتكم، حدّثني أن أوّل أجر تقاضاه عن عمله في شركة سكّة حديد سورية ولبنان، في ثلاثينات القرن الماضي، كان مائة وخمسة وسبعين قرشا سوريّا، وكانت كافية لسداد المعيشة، وربّما استطاع البعض التوفير منها.
الآن أحفادي ربّما قالوا عن ماذا يتحدّث هذا الشيخ؟!!
أتحدّث في هذا لأشير إلى أنّ الاقتصاد العالمي إذا ظلّ مُسيطَرا عليه من قبل الرأسماليّين النهّابين، والشركات، ومراكز القوى التي لاتعرف غير تحقيق الأرباح، ولو على حساب كلّ القيم الأخلاقيّة، .. إذا استمرّ هذا فلانعلم إلى أين سيصل أبناء هذا الكوكب في مواجهة التضخّم، الذي تغذّيه، وتقتات عليه المراكز الرأسماليّة، بمن يتْبعها.
في ذلك العام، لم أعدْ أذكر كيف كتبتُ مسرحيّة يمثّلها طلاّب الصفّ الخامس الابتدائي، ولكنّني أقدّر، وأنا متأكد من أنّها كانت مسرحيّة وطنيّة، وكان مَن لعب دور البطولة فيها طالب فارع الطول مجتهد، مميّز في دروسه.
لايفوتني أن أذكر أنّ بلدة خان شيخون كان فيها قبل الوحدة مع القاهرة ثلاث كُتل فاعلة، اجتماعيّا، وسياسيّا، كتلة مايسمّون الإقطاعيّين، وبينهم مَن لايملك أكثر من قوت يومه، وهو مصنَّف على الإقطاع،!! كتلة البعثيين، وهذه كانت في الجهة الغربيّة من البلدة، وكُتلة ثالثة وقفت على الحياد بين الكتلتين، وبعد قيام الوحدة مع مصر اعتمدت السلطة على الأخيرة، فأبرزتها كبديل للاثنتين، وما ذكرناه ليس إلاّ مؤشّرا على تسيير الأمور، وعلى العقليّة التي كان عليها أن ترتقي إلى مستوى التعامل مع أوّل وحدة عربيّة في تاريخنا الحديث، فتُرك الأمر لمن أثبتت الأيام أنّهم لم يكونوا جديرين بشرف الدفاع عن ذلك المبدأ، ليس هذا فقط، بل بعضهم انقضّ على الوحدة ففصمها!!
في سبعينات القرن الماضي كنتُ موجّها في إعداديّة عزّت الجندي الكائنة في باب تدمر، وكنت يوميّا أخرج مشيا من حيّ النزهة حتى باب تدمر، بنشاط وهمّة، أنا الآن الذي لو ملّكته كلّ مايقع على ذلك الطريق، شريطة أن يمشي هذه المسافة لعجز!!
جاء الآذن وقال إنّ المدير يريد أن يراني، هبطت من الطابق الثاني، وقصدتُ الإدارة، وسلّمت على المدير، وعلى ضابط كان معه برتبة ملازم ثان، وسألت المدير ماذا يريد منيّ، فابتسم، وأشار إلى الضابط،فابتسم الضابط، وقال هل نستطيع الكلام خارج الإدارة، فخرجتُ وتبعني، وحين وقفنا بعيدا بحيث لايسمعنا أحد سألتُه:» خير إنْ شاء الله»، ؟ فاتّسعت ابتسامته وقال :» هل تذكر خان شيخون»؟ قلت:» كيف لاأذكرها»؟، قال هل تذكر التمثيليّة التي كتبتَها وأخرجْتَها، وعهدتَ إليّ بالدّور الأوّل فيها،»؟ فجأة بدأت تنقشع الصورة، وتابع:» أنا ضابط هنا في إحدى القطعات العسكريّة، وفي كلّ يوم أراك وأنا في الباص تقطع هذا الطريق، اليوم قرّرت أن آخذ إجازة لأزورك فقط،»
طلاّب هذه الأيام، هل فهمتم شيئا ممّا قيل؟!!
عبد الكريم النّاعم