تحية الصباح …حصاد

تترك الحروب، على مدى العصور، آثاراً بالغة السوء على المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ولهذا انعكاساته الخطيرة على الحالة الأخلاقيّة، وهذه المساحة شديدة الحساسية، على جميع المستويات، لأنّها تدوم أزمنة أطول بعد توقّف المعارك.

الحرب التي شنّها هتلر على روسيا تركت الكثير من الدمار، بيد أنّ الأخلاق ظلّت على سلامتها، كما أنّ الدمار الذي عانت منه ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية، دلّت النتائج فيما بعد أنّ الأخلاق ظلّت فيها بمنجاة إلى حدّ كبير، وهذا يعني أنّ الأخلاق أساس في البنيان الفردي والمجتمعي.

في الحرب تكون مشغولا كيف تحفظ سلامتك، وكيف تُواجه، وكيف تهاجم أو تردّ الهجوم، أمّا حين تتوقّف الحرب فإنّ من طبيعة الإنسان أن يرى حجم ما حدث، ويُعايش آثاره، وقد يظنّ أنّه عاجز عن تقديم شيء سوى الأسف والحزن، خاصّة حين يرى أنّ الغبار قد تكشّف عن مستجدات مُفزعِة، وأنّ حجمها يُثير الذّعر، وهذا موقف سلبيّ دون قصد، بل هو ناتج معطيات أخرى هي ذلك الانكشاف المجتمعي، فيجد نفسه في موقف العاجز، المتألّم، والذي يتمنّى فلا يبلغ أمنياته، فيزداد الإحباط، والقهر، وربّما عمّ اليأس،

لعلّ من أخطر تلك النتائج فقدان النموذج، والنّماذج لا تتشكّل بالرغبة، أو بطرح الأقوال والآراء التي تبدو على درجة كبيرة من الصواب، لأنّ غاية النموذج أن يقتدي بأنواره المقتدون، فكيف يكون الاقتداء بحالة سليمة حين يعمّ الثراء غير المشروع،؟!! هذا لم يكن يملك شيئا  قبل هذه الكارثة وهو من أصحاب العقارات والسيارات اليوم؟!!

أنت أمام مجتمع جديد تخلّفه الحرب، حتى لكأنّ زلزال المعركة قد أصاب الجذور عميقا، كما هو واقع الحال،

أنا كغيري أعرف أنّ حجم الفاسدين المفسدين لا يتجاوز العشرة بالمائة، والكارهون لهؤلاء يشكّلون تسعين في المائة، ولكنها تسعون شبه معطّلة، ومَن يملك المال يملك الكثير، فهو يشتري ويبيع دون وازع من وجدان، ولا خوف من حساب سوف يقف فيه بين يدي الذي لا تخفى عليه خافية، فهو في سكرة المال والجاه والرفاه لا يأبه إلاّ بها، بعيداً عن كلّ قيمة أخلاقيّة وجدانيّة،

سبق أن ذكرت في بعض مقالاتي أنّ أباً أراد أن يُداعب ابنه ابن السنوات الخمس، فقال له يدلّله، ويحفّزه:” ماذا تريد أن تكون في المستقبل”؟، منتظراً منه أن يقول أنّه يود أن يكون طبيبا، أو مهندساً، أو ضابطاً في الجيش، لكنّ الإجابة صعقت الوالد حين قال له :” أريد أن أكون حرامي”، فوجم الأب، وتابع لماذا حرامي يا ابني”؟ فأجابه : ” سمعتهم يقولون الحرامي يستطيع أن يشتري كلّ شيء”، هكذا يُصبح الحرامي نموذجاً، !!

قُدوة أبنائنا الذين يجب الرهان عليهم :” الأب- المعلّم- السياق الاجتماعي الذي يتسلّل ببطء، وهؤلاء جميعا في وضع لا يستطيع فيه أيّ واحد منهم أن يكون نموذجاً بسبب طغيان الرداءات، واستفحال كلّ ما هو محرّم،

بعض النّماذج العالية، والتي تشكّل محوراً في بنيان الفرد، ونموذجا عاليا للمجتمع، يدرَّس في المدارس، وتتغنّى به القصائد، سُلب الكثير من قيمته بسبب إهماله، وعدم إعطائه المواقع التي يستحقّها،

هذا الثمر المرّ ليس قدراً لا يمكن الفكاك منه، بل هو حالة، يُفترَض أن تكون طارئة، وما نواجهه من آثار تبعث الأسى ليس مؤبَّداً، ونحن نردّد ربما بغير وعي جملة دوام الحال من المحال، فلا بدّ من خروج، لأنّ استمرار عقليّة البيع والشراء والكسب الشخصي لا يمكن أن تبني بلداً، فكيف ببلد خارج من حرب عالميّة شُنّت عليه…

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار