تحية الصباح .. عودة العاصي

« وجَعَلْنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيّ»- صدق الله العظيم .
للعاصي في ذاكرتي مساحة تكاد تبلغ حدّ الحلم الجميل، والحلم الجميل حين يُصاب بما يكسره فإنّه يكسر شيئا عزيزاً في القلب .
قبل مدّة غير بعيدة كان عليّ أن أذهب لتعزية لابدّ من أداء الواجب فيها، فمررْنا بعاصي حمص، بجوار منطقة ديك الجنّ، فالتفتَ لأتنسّم شيئا من عبَق تلك الأيام، ونظرتُ إلى المجرى ، فطالعني قصَب كثيف يتطاول في موقع آسن، حتى كأنّه لم يعرف جمال ذلك الجريان الذي عرفناه، واختزنّاه في الذاكرة لوقت الحاجة، فغمرني أسى عميق بلا قرار، حتى لكأنّ الأشياء الميتة يُمسك بعضها بيد الآخر، من موت المياه، إلى ذلك الموت والدّمار الذي حملتْه لنا قطعان التّكفير، فدمّرت مادمّرت من مدن، ومعامل، وبلدات، وتركتْ في نفوسنا أنقاضا،.. ياإلهي كم تحتاج إلى جهود جبّارة وخلاّقة لنتخلّص من أوضارها، ولعلّ أكثرها إيلاما، أنّ الأدوات التي استُعمِلت كان في قسم غير هيّن منها من أبناء البلد .
العاصي في طفولتي ويفاعتي وحتى مابعد صباي كان عالماً من الحلم، الحلم المتحقّق، الحلم الذي يمشي بجانبك ويسايرك، ويتحدّث إليك.
يوم كان العاصي عاصياً بحقّ، في الذاكرة منه طاحونتا ماء تديرهما مياهه المتدفّقة، ورائحة الطحين، والسّمك الذي كانوا يصيدونه منه بواسطة ( العبّ)، أو عبر الشّباك، وذلك الوادي الذي ابتلعتْه مياه سدّ الرّستن، والذي مازلتُ كلّما ضاقت بي قبل النّوم أُغمض عينيّ وأذهب إلى ظلّ صفصافة مستحيّة وألوذ إلى فيئها، وأجلس على بساط من العشب الأخضر الطريّ، وأراقب كيف يعبرون على ظهور الخيل من ضفّة إلى ضفّة وهي تسبح بهم، خُضرة، وثمار، وخُضار، ونداوة لاتشبهها إلاّ نداوة التّوق والحنين، ومساحات من القطن، والسّمسم، ومانبت من شجيرات صغيرة على حوافي تلك الضفاف.
حدّثني قبل فترة غير بعيدة أحد الذين ذهبوا بعمل ما إلى الجارة « حماة» فقال إنّه أسرع في الخروج منها ليتخلّص من الرّوائح الكريهة التي تفوح من جوانب مجرى العاصي، إذ يبدو إنّ بعض المجاري مسلَّطة عليه، وحين غاض الماء، لم يبق غير تلك الرّائحة، وصمت النواعير النّاشف، وهدوءها الطافح بالسكون الأبديّ المُخيف.
ذات زمن كنتُ مدعوّا للمشاركة في نشاط شعريّ في دير الزّور، وقد عرفتُ الفرات فيها أيام جموحه، وخُيلائه، فطالعتْني بُرك صغيرة من الماء، مطرقة خجولة، وظَهَر قاع النّهر عاريا إلاّ من ذكريات غبرت، فقد حُبست مياهه بقصد من قِبل الأتراك، ولوهلة وجدت نفسي أمام مشهَد يبسط في أمداء الرّوح كيف تموت الأنهار، وتكون شاهداً على نزْعها.
في الذاكرة « عاصي ربْلة» حيث تزهو الأشجار، بانسياب مائه البهيّ، ويتطرّز ماحوله بالقادمين إليه لاقتناص سويعات قليلة بين الخُضرة والماء، ونحن سمّاره في أحد المطاعم فما يعكّر صفوَ ذلك البهاء إلاّ تلك الموجة المجنونة من رفع أصوات البافلات، وربّما كان صبرنا عليها ثمنا لما تتركه الخضرة والماء من أنداء وأحلام في الذاكرة.
قبل أيام زارني قريب يقطن منطقة الغاب، فسألتُه عن تلك البقاع التي لي فيها من مُختزنات العمر مافيها، فقال لي:» لقد فاض العاصي هذا العام، فلم تستطع لجْمه الشقّات، والسواقي،ولا مجراه، حتى لكأنّ الغاب يكاد يلبس حلّة ماكان عليه قبل التّجفيف،
أغمضتُ عينيّ بهدوء، وتخيّلت عودة تدفّق هذا النّهر الجار، وتصوّرت عودة الحياة والخُضرة والأنس إلى ضفافه.
ثمّة مَن يرى أنّ الإنسان جارَ في اعتدائه على الطبيعة، فهي، ككائن حيّ، تدفع بعض ذلك الأذى، على مستوى هذه الأرض، في البحار كما في الأنهار، فإذا صحّ ذلك فنحن واردون على مالا يُطمْئن…

عبد الكريم الناعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار