لم يستطع أبو مسعود السعيد في تلك الليلة أن ينام وكأن فراشه من شوك أو مسامير , ففي الغد سيذهب الى مبنى البريد ويصعد الدرج بهمة ابن العشرين لا ابن السبعين ويلقي القبض على – ما عاشه التقاعدي – من الكوة التي نشأت بينه وبينها علاقة حميمية , وأصبح الموظف الذي يقبض من عنده على الماعاش صديقاً ودوداً له .
ولكنه كان أرقاً قلقاً في تلك الليلة ويخاف من يوم الغد ولذلك كان يردد مع الشاعر السوداني الهادي آدم الذي غنت له أم كلثوم :
أغداً ألقاك ؟ يا خوف فؤادي من غدي !!
يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد !!
ولعل سبب أرقه وقلقه أنه مولع بضرب أخماسه بأسداسه وهذا ما يوقعه دائماً في – حيص بيص – من أمره , وعلى الرغم من أن أبا مسعود السعيد كان يعيل نفسه فإن حساباته تفتق دائماً وكأنها جورب من جوارب البسطات الرخيصة .
فأبو مسعود حفظ كل الأغاني والطقاطيق التي يعبّر أصحابها عن البساطة والتواضع ومد الرجلين على قد البساط , فلكم غنى مع الشحرورة صباح :
عالبساطة البساطة يا عيني عالبساطة
أديش متمني عيش جنبك يا – بو الدارويش –
تعشيني جنبة وزيتون وتغديني بطاطا
ولكم استمتع بأغنية وديع الصافي الدرامية التي ينصح بها ابنه أن يبتعد عن – سلمى – المعتادة على السهر كل ليلة , ولا تمتلك شيئاً من حنان أو عطف على الآخر , ويطلب منه أن يأخذ – ليلى – ابنة ضيعتهم التي إن جارت الأيام تحيا على الزيتون والجبنة .
ولكن ضرب الأخماس بالأسداس يرفع الضغط الشرياني ويسبب جلطة دماغية أو قلبية وفي أحسن الأحوال يجعل السكر في الدم الى مستوى قياسي , فالكيلوغرام من الجبنة المتواضعة يساوي ألف ليرة وهو الماعاش اليومي لأبي مسعود السعيد وكيلو غرام الزيتون الأكثر تواضعاً يتفوق على الخمسمئة ليرة , وكيلو غرام البطاطا المغلف في أكياس مستوردة يزيد عن ثلاثمئة ليرة ولذلك بطل مفعول كل الأغنيات التي رسخت في ذاكرته , وتطلع الى احلال أغان جديدة محل الأغنيات القديمة البائدة , فيغني مثلاً : عالحمص والفلافل – أو بندورة وباذنجان ولكنه سرعان ما تذكر كيلو الحمص السادة منتصب القامة مرفوع الهامة يمشي وتمشي الى جانبه لفافة الفلافل الأقل قيمة بمئتي ليرة وتذكر أن اجتماع كيلو بندورة وكيلو باذنجان ينطح الألف ليرة نطحاً مؤلماً ولذلك قرر أن يحذف من جدول أخماسه وأسداسه الدجاج والسمك , وأن يشطب وسائل التدفئة كلها فجرة الغاز مستعصية بالثمن الطبيعي وليتر المازوت مستحيل بالسعر النظامي والكهرباء خائفة من حبنا مترددة في زيارتنا كأنها الحمى التي كانت تزور الشاعر المتنبي في الظلام على خجل , ولذلك قرر أبو مسعود السعيد أن يغني مع زياد الرحباني وجوزيف صقر :
اسمع , اسمع يارضا كل شي عم يغلي ويزيد
البارحة كنا على الحديدة واليوم صرنا عالحديد
وأن يدخل في سبات شتوي ليستيقظ منه مع ذوات الدم البارد في مطلع الربيع .
د. غسان لافي طعمة