أمهات يلدن شهداءهن مرتين

برعت الأديبات السوريات في فن الرواية، كما برعن في أدب الرسائل، والكتاب الذي بين يدينا اليوم يجمع بين فني الرواية وأدب الرسائل، يحكي الكتاب المعنون بـ (القربان) رواية استشهاد البطل حسن عدنان ونوس، بلغة صادقة تقطر حزنا وشوقا وفخرا بقلم أمه السيدة الملهمة إلهام وسوف،وهي لم تفكر في طباعته ولا في تبويبه هي فقط كانت تكتب لتوقف نزف قلبها بعد رحيل حسن صغيرها المدلل وآخر العنقود ذي العشرين ربيعا   .

ضمنت الكاتبة إلهام روايتها الأولى الرسائل المتبادلة بينها وبين ضناها الشهيد حسن، حيث لم يكن متاحا حينها وبسبب حصار مشفى جسر الشغور_ مكان استشهاده_ لم يكن متاحاً سوى الرسائل على “الوتس أو الرسائل الالكترونية عبر الموبايل” لتطمئن الأم أن ولدها ما زال حياً بعد كل تفجير لاقتحام المشفى .

زمن رواية القربان يمتد على مدى عشرة أشهر منذ قرار حسن الذي يسكن مع عائلته في حي الدخانية في دمشق وقراره الالتحاق بخدمة العلم رغم أنه مؤجل دراسيا، ولكن عندما أصبح المسلحون على بعد أمتار عن منزلهم قررت العائلة ترك المنزل لئلا يحدث لهم ما حدث في عدرا العمالية وهنا قرر حسن أنه سيلتحق بالخدمة العسكرية وأن الدراسة متاحة لاحقاً لكن الدفاع عن الأرض والعرض لا يتاح مرتين ،جاءت العائلة إلى حمص واستأجرت منزلا في أحد أحيائها والتحق حسن بالخدمة الإلزامية.

 قبل التحاقه بيوم تقول الكاتبة في روايتها في الصفحة ٩:(قلت لي في آخر لقاء بيننا :أمي كتبت لك قصيدة ونشرتها على الفيس بوك ورجوتني أن تقرأها لي بصوتك لكني رفضت ،لا أعلم لم رفضت ،قلت لي اسمعيني يا أمي ربما استشهدت ،وأذكر أنني صرخت في وجهك قائلة :صه يا ولد ،لا تنبث ببنت شفة بهذا الكلام مرة أخرى ….يا حسرتي أنى لي أن أدرك أنك تعي ما قلته لي …)ص٩

الرواية تعتمد تقنية الخطف خلفا فهي مناجاة بين الكاتبة وبين ولدها الشهيد بدأت بتدوينها بعد استشهاده بتاريخ ٢٢/٥/٢٠١٥ عندما بقي مع ٣٥مقاتلا فدائيا داخل المشفى لتغطية خروج رفاقهم والمدنيين على دفعات، فالمسلحون فخخوا نفقا تحت المشفى بأطنان من المتفجرات وقررت القوات المحاصرة داخل المشفى منذ شهور دون ماء أو طعام أو كهرباء أو وقود للمولدة مع عدد كبير من المدنيين الذين هربوا من اجتياح قرى بشلامون والفريكة وجميعهم من النساء والأطفال قرروا الانسحاب ، وعندما جاء دور مجموعة انسحاب حسن وضع على كتفيه طفلين وبدأ يركض بهما سقطت عليهما القذائف كالمطر ….و أصيب حسن بشظية في كتفه الأيسر فاستشهد مع الطفل الذي على كتفه اليسار … رغم أنه حاصل على ميدالية في رياضة الجري كان بإمكانه أن ينسحب بمفرده لكن حسن فضل حمل طفلين كأقصى ما يستطيع فعله للمدنيين المحاصرين معه منذ شهور كيف لا وهو أول من تبرع أن يكون ضمن مجموعة التغطية الداخلية وهي بمثابة مجموعة استشهادية وهذا الكلام على لسان زملائه الذين نجوا …..رحم الله تلك الأرواح التي اختارت الخلود بملء إرادتها وقناعتها أننا جميعاً أموات والعار أن نموت جبناء أو نموت في ) الفراش كالبعير).

 الرواية مكتوبة بلغة شاعرية شفافة دون أن تتكلف الكاتبة بهذه الشاعرية ، و الكاتبة مثقفة من العيار الرفيع وضح هذا خلال المونولوج الداخلي بينها وبين ولدها وهي لم تكن تفكر حتى في طباعة ما تكتبه في رواية هي كانت ترفض الاستكانة للحزن وترفض الاستسلام لاستمرار النزف من جرح فتحه حسن أصغر أولادها وآخر العنقود باستشهاده ،وهو الذي اختار خدمة العلم على الدراسة بمحض إرادته متوقعا مصيره وطالبا له كقديس من هذا الزمان والتحق بخدمة العلم في ١٠/١٢/٢٠١٤ واستشهد في مثل هذا اليوم ٢٢/٥/٢٠١٥ في مشفى جسر الشغور دون أن يتمكنوا من إحضار جثمانه الطاهر بل بقي هناك تقول الكاتبة يوم ٢٢/٥/٢٠١٥ ص١٥:(حتى السماء بكت يوم استشهادك فقد أمطرت يومها كثيرا ربما لتغسل الجو الذي ستعبر منه روحك الطاهرة ….وفرحت لأنك ذاهب إليها ..عذرا سيدة فيروز صار عندنا شتي أيار الحزين وليس شتي أيلول..) . الحدث في الرواية يتصاعد نموا مضطردا حتى رصد تغير الحياة وتساوي ألوانها جميعا مع أسرة حسن بعد استشهاده بعد أن رصدت بدقة موجعة لحظات الترقب والقلق والخوف من حصار دام أشهرا أصيب حسن في قرية الفريكة فأسعف إلى مشفى جسر الشغور وتمسك فقط ببندقيته فبقي جواله في حقيبته مع أغراضه كلها هناك وهكذا بقي دون لباس ودون جوال فكان يلجأ لموبايل زميل له ويرسل رسالة على الوتس يبدأها :(أنا حسن أنا منيح هاد موبايل زميلي.. ما فيني احكي معكم ما في شحن ..ادعولنا)هكذا كانت الأم وعائلتها يدركون أن حسن ما زال حياً …لقد قسمت الكاتبة نصها هذا إلى فصول كل فصل بحسب توارد الخواطر والذكريات ,الفصل الأول حمل عنوان:(أميري الصغير ..شهيد العنفوان)،أما الثاني : (دير ماما ذهبت وتذهب للحرب) وهو عنوان تشير فيه صراحة إلى ابن دير ماما الكاتب المعروف ممدوح عدوان ،حيث أقيم عزاء الشهيد حسن الذي ولد في دمشق _بحكم عمل والده _وعاش في حمص واستشهد في جسر الشغور وغيرها من عنوانات الفصول التي تدونها الكاتبة الأم بقلم يقطر حزنا وفخرا ، وبرضى تام أننا سنغادر هذه الفانية يوما ما جميعاً ،وستبقى آثارنا فقط من هنا قررت الكاتبة إلهام وسوف توثيق رواية استشهاد حسن مازجة بين أجناس أدبية عديدة دون أن تقصد ذلك ،جل هدفها توثيق ومواساة لروحها في وجه النسيان وحفظا للتاريخ من التشويه ..هكذا تعلمنا هذه الأم لغة السنديان في تقبل التهاني باستشهاد ولدها الصغير المدلل لتحمي وجوده من الفناء وترسخ بقاءه في كتاب.. هكذا تربي سورية جيلا من الأمهات أمهات يلدن شهداءهن مرتين ،الولادة الثانية بتخليد شهدائهن في رواية تتضمن كل الأحداث التي سبقت وتلت الرحيل فكأن هذه الأحداث مخاض طويل ينتهي بولادة حسن مرة ثانية ولادة لا تنتهي بالموت ..بل تبدأ به .

سبع عجاف مرت على استشهاد حسن رحمه الله نأمل أن يتلوها سبع سمان فالسوريون جديرون بالحياة مهما اشتد وقست.

ومن منبر جريدة العروبة أتوجه إلى الدكتور محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية الذي طرح فكرة توثيق قصص الحرب ضمن مشروع حكايات أثيرة وأتمنى منه أن يتبنى طباعة هذه الرواية بطبعة أنيقة وإخراج جميل وأن يقيم الاتحاد حفل توقيع للرواية وهي جديرة بكل الضوء تتوافر فيها عناصر الرواية التقليدية وأدب الرسائل عدا عن اللغة الشاعرية وصدق التجربة الذي جعلني أقرأ الرواية مرتين مرة بقلب أم نازف ومرة بقلم صحفية ترى أن الرواية تستحق الضوء ،لأنها تؤسس لجنس أدبي جديد خاص بأدب الحروب و خاص جداً بالسوريات العظيمات اللواتي ينفقن أعمارهن في ولادة الشهداء مرتين     .

أخيراً رحم الله شهداء سورية أجمعين ورحم الله شهيدنا حسن عدنان ونوس في الذكرى السابعة لاستشهاده التي تصادف اليوم ٢٢/٥/٢٠١٥ وحفظ الله السيدة إلهام التي تربي الضوء لإنارة نفق حياة ضاقت بنا جميعاً.  

وسامحك الله فلم تتوقف عيناي عن الهطل كأني أمه الثانية وستكون هناك أمه الألف… المليون…..! أنت تمثلين كل أم اختارت البقاء في أرضنا حتى آخر قطرة دم وحبر شكراً لك وشكراً لكل قطرة تنزف فتنبت سبعا سمان بعد سبع عجاف.

العروبة – ميمونة العلي

المزيد...
آخر الأخبار
في ختام ورشة “واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة”.. الجلالي: الحكومة تسعى لتنظيم هذه... سورية: النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الج... فرز الخريجين الأوائل من المعاهد التقانية إلى عدد من الجهات العامة أفكار وطروحات متعددة حول تعديل قانون الشركات في جلسة حوارية بغرفة تجارة حمص بسبب الأحوال الجوية… إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه الملاحة البحرية مديرية الآثار والمتاحف تنفي ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام حول اكتشاف أبجدية جديدة في تل أم المرا ب... رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من القطاعات القبض على مروج مخـدرات بحمص ومصادرة أكثر من 11 كغ من الحشيش و 10740 حبة مخـدرة "محامو الدولة "حماة المال العام يطالبون بالمساواة شراء  الألبسة والأحذية الشتوية عبء إضافي على المواطنين... 400ألف ليرة وأكثر  سعر الجاكيت وأسواق الب...