حين تكون ساهراً، داخل بيتٍ جبليّ صِحيّ، ذيٍ هواء عليل، بعيداً عن صخب المدينة، وروائح حاوِياتها، وأبواق سيّاراتها، وعِراك أناسِيِّها مع الحياة، يحيط بك الصّمت إحاطة سِوارٍ بِمعصمِ أنثى.. بهذا الجوّ الصّامت كَحَجَر، لا بدّ وأنْ تراودك أفكار وخيالات، ورُؤى واختلاطات، بألوان قوس قزح.. حالتئذٍ، يكون الصّمتُ أكثرَ زخماً منْ كلامِ مُعلّم جليل.. يحدّثك الصّمتُ الآسِرُ، وأنت شارد الذّهن، وقد فَغَرَ فاهُ:
ألا تتذكّر «أم فيصل»، تلك المرأة، النّازحة عنْ بيتها بريف حلب، من بدايات المؤامرة، على بلدنا، التي كانت تعمل بأحد البساتين بالمُياومَة، كيف شرحَت لِثلّةٍ من زائراتها، عنْ نزوحِهم القاسِي المُرّ، بعدما تركوا كلَّ شيءٍ عزيزٍ وراءهم، هربوا بثيابهم، خوفاً منْ حُثالةٍ إرهابيّةٍ مُتشنِّعَة، كادت أنْ تقضي عليهم، لولا أنَّ الله سلّم.. كيف جاءت على حكاية ولدها «رؤوف» المخطوف، من قِبل عصابة إجراميّة، منذ سبع السنوات، بطريق «سلمية – خناصر»، بمنطقة «إثريا»؛ كيف تعرّض أخوه العريس «رَحمْو»، الذي لم يكمل الشّهرَ زواجاً، لِطلقةٍ طائِشة، وهو بنوبة حِراسَة، بأحد المواقع، القدر لم يمهلْه طويلاً، ودّع الحياة، مأسُوفاً على شبابه الريّان..
كانت تتحدّث، عيناها الحمْرَاوان ترشحان دمعاً مُوجِعاً، على وفاة ابنٍ بِمقتبلِ العمر، وعلى فلذة كبدٍ أخرى، لا تزال بقبضة الخاطِفين الإرهابيين ؛ أحيٌّ هو، أمِ الأُخرى؟!
أخذ الصّمت نفَسَاً، أردفَ: (هلّا تذكّرتَ، ذاك العسكري المُصَاب، حين اتّصل العام الماضي، قائلاً: لطفاً أستاذ «وحيد»، أرجو تسجيل ابنة أختي بالرّوضة؛ «شيماء» طفلة بأربع سنوات، سُمْعتُكُم، والرّوضة، «عال العال»؛ ألم يكن ابني «وائل»، عندكم بـ «التّحضيري»؟ الآن بالأوّل الابتدائي، منْ الأوائل.. أمّا أنا فقابعٌ بالفراش، مَعْصُوبُ السَّاقيْن، منذ شهرين، تعرّضَتْ ساقي اليُمْنَى للبَتِر منْ فوق الرّكبة، الثانية أضحت مُهَشّمَة، وهناك إصابات بليغة بجسدي.. السّبب: «انفجار عبوة ناسِفة»، كنّا نتقدّم بالغوطة الشّرقية، وقتئذٍ تطايرت رؤوس وأطراف، وشظايا وآهات).. تثاءبَ الصّمتُ، فرَكَ عينيه، ناشِداً الصّحوَ، منْ ذكرياتٍ أليمة، مُستعرِضاً شريطاً سينمائياً، لذاك المُصاب البطل، الذي سيبقى مُعَوَّقاً، حتى لو ركّبوا له طَرَفاً صناعيّاً، فهذا بعضٌ من ردِّ الوفاء!
(حين أنهى حديثَه عنْ مواجِعه المُوجِعَة، تواعدْنَا على زيارته، ويا لقساوة ذلك المشهد الأليم).. عاد الصّمت لِهدوئِه، لكنّه ما لبث أنْ واصلَ حديثه: ألا تتذكّر يا «وحيد» تقرير «الأمم المتحدة»، مُتحدّثاً عن «مناسيب القراءة» بدول العالَم، حتى إذا وصلنا لأمّة «اقرأ»، لعرَفنا أنّ «المتوسّط الحسابي»، لدى القارىء العربي، «سنويّاً»، هو (ستّة الأسطر)، فقط، وبِلا حَسَد، والله المُسْتعَان، وشرُّ البَليّةِ..!
يومها، قال الصّمت مُؤنِّباً: (ألم تشعر يومها بانكسارٍ بعصبِ الرّوح، وأنت المُحبّ لموضوعة القراءة، منذ نعومة الأظفار؟! ألا تتذكّر يوم قرأتَ التقريرَ، كيف ثارَ بقلبكَ وفكرك «تسونامي» عاصف، كيف غاضَ الفرح، استوطنك الأسَى والقهر، وأنت – بالوقت عينه – تتذكّر، الزّعيم الهندي «جواهر لال نهرو»، الذي دعا شعبه، إلى محبّة العلم، لأنّ ارْتقاء الأمم، لا يكون إلّا بالعلم، قائلاً: «العلم وحده هو القادر على حلّ مشاكل الفقر، والجُوع، والجهل، ومحو الأميّة، ومشاكل الخرافات والتقاليد الخاطئة.. إنّ المستقبل للعلم، ولِمَنْ يتّخذُونَ العِلمَ صاحِبَاً»!! ثمّ ألم تتذكّر الزّعيم الأفريقي «أمليكار كامبرال»، الذي قال لشعبه: «تعلّموا من تجاربكم، تعلّموا منْ تجارب الآخرين، تعلّموا من الكتب، لا تكفُّوا عن التعلّم»؟! يأخذ الصّمتُ بُرهة للرّاحة، عادَ ليقول:
(هل تتذكّر أيّها المُتكوّر بعباءةِ خَجَلك – وأنت طَيَّ حُجرةٍ أشبه ما يكون صمتُها بصمتِ القبور – زميلَك الرّاحل «علي الصّيرفي»، كيف أنّه كان معلّماً وقاصّاً وناقداً وإنساناً فريداً بأخلاقه العالية، وأفكاره المُونِقة، وكتاباته الرّاقية، ووطنيّته الصّادقة، ونقده البنّاء، يشهد له بذلك القاصِي والدّانِي، منْ أرْباب الأقلام والكتابة المُنصِفِين، وسواهم، كيف أنّه حين توفّي، بجلطةٍ دماغيّةٍ مُباغِتة، لم يخرج لتشييعه سوى واحد أو اثنين أو ثلاثة منْ أهل حِرفتِه، لأنَّ الزّملاء، لم يسمعوا بنبأ رحيله عنْ هذه الفانية، وأنا أعرفُ – يقول الصّمتُ – أنّ الكاتب الحقّ، ليس جَحُوداً، ولا حاسِداً، ولا مُتوارِياً، ولا نكّاراً، بلْ يتمتّع بجوّانيّته، بكثيرٍ من الوفاء والإخلاص والنّقاء، لِحَمَلةِ الأقلام، أهل القيم، .. بِخيمة العزاء، مع فناجين القهوة المُرَّة، ومرارات القلوب الحيّة، كان هناك عددٌ غفيرٌ من أصدقاء الرّاحل، الذين قرؤوا الفاتحة على روحه الطاهرة، بعدما تحدّثوا مُطوَّلاً عنْ مناقبه، وسموّ أخلاقه، وفقره المادّي، وعن كتاباته القصصيّة والنقديّة المُهمّة)! صمتَ الصّمت قليلاً، عاد للثّرثرة كمِذياع:
«هل تتذكّر، أيّها الجالس أمامي، المدعو «طاهر»، كيف أنّه كان يمتلك بيتاً مؤثّثاً منْ «مَجَامِيعُو»، ومحلّاً تجارياً حيويّاً، له ولدان، كيف تعرّف إلى تلك المُتصابِية، عشقَها لمالِها ومَصَاغِها.. باع البيت، باع المحلّ.. مع الأيام، لم يبقَ بِجيوبه بالكاد ثمنُ ربطة خبز.. اليوم أضحى «على الحدِيدة» كما يُقال، يقطن وعائلته منزلاً متواضِعاً بالكِرَاء، يعمل سائقاً على تاكسي عمومي، أضحَت حالته الصحيّة مُتدهوِرة، حلّ به مرض السّكري اللعين، وأمراض أخرى، وبعدما تعرّض لكسرٍ حادّ بإحدى ساقيه، يوم كان يعمل بالتّهريب.
«تعليق»:
«كان الصمت الثّرثار، يتجوّل على راحتِهِ بهذا المنزل الصّيفي المُهندَم، لا يقضّ مضجعه أيَّة حركة، أو أدنَى صوت، لا بالداخل ولا بالخارج، لا بوقاً لسيارة سائق أرْعن، لا أصوات شغب لأولادٍ مُتفلّتين، ولا لأيّ مذياع أو تلفاز أو مسجّلة.. لا معركة لِمُتعارِكَين على واحدٍ منْ سفاسفِ الحياة، وحُطامِها!
لم تطل السّهرة بالضّيف «وحيد»، التحفَ ببطّانية الصّمت، راح يستلقي بأحضان نومٍ صامت..أمّا «الصّمتُ» نفسه، فلم ينمْ ليلتها، بقي يتجوّل داخل الغرفة، وباقي أرْجاء المنزل الوسِيع، ناسِجَاً، بِتَؤدَةٍ، خيوطاً إضافيّة، للعنكبوت والثّرثرة!!
وجيه حسن