تبدو لعبة خداع الأسماء من أكثر الأمور التي تدعو إلى التعجب في زمن كل ما فيه يدعو إلى الاستهجان ، لما فيه من غرائب وعجائب قد تجعل الإنسان في أحايين كثيرة يشكُّ في نفسه ومدى امتلاكه القدرة على التمييز ما بين الخطأ من الصواب ،ولعلَّ ما يزيد الطين بلة كما يقول المثل أن المرء يرى الشيء ونقيضه في الوقت ذاته ،وهكذا تبدو من الصعوبة بمكان أن يكتشف المتأمل الحقيقة من الخداع ، والماء الحقيقي من السراب الذي يتراءى للعين من بعيد ، هذا السراب الذي أصبح من كثرة صدمه للعين من مسلمات الرؤية بأنه الماء الحقيقي ، وعلى هذا الأساس ووفق هذه القناعة المفروضة يصبح التعامل مع كل ما هو سرابي ، ولا تبدو سلسلة قصيرة يمكن أن تنتهي بمرور وجودها ، أو مع تقادمها ، بل على العكس من ذلك ، إذ تزداد مع مرور الزمن ، وتتعاظم قوة ذلك الماء الذي كان سراباً ، ليصبح جليداً ، وثلجاً وله سعره الذي يسير بسرعة البرق في الارتفاع مسايراً الذهب الذي أصبح حلماً للفقير، ومؤنة لأصحاب المدخرات ، ورصيداً للتاجر المقامر الذي يعرف كيف تكون الشطارة ، ويتقن فنها .
وإذ كنت قد بدأت بالبريق ، فلأن البريق يخطف الأنظار، وهو ما يعمل عليه أولئك السرابيون في تلميع الذات وفق معايير، وظروف سانحة ، وأمام هذا البريق ترى العجب العجاب ، إذ تكثر جوقة المطبلين والمزمرين ــ للمبروق ــ وهي اسم مفعول من صاحب البريق ، وبذلك يصبح مميزاً ومشهوراً وذا صيت يسابق المتنبي في عصره ، وزرياب في أوانه ، وابن مقلة في أيامه ، وتطول القائمة في عصر التقنيات والتكنولوجيا التي يسَّرت كل سهل ، وقربت كل بعيد ، ومكنت كل ضعيف، فأسهل ما يكون المرء اليوم معالجاً فيما يسمى بالطب البديل ، وقد تعاظم دوره أمام تراجع الطب الحقيقي الذي هو الآخر أصيب بتجلد وتورم السراب ، فما عدت تثق بدواء ولا ترتاح لتشخيص طبيب ــ إلا فيما عفى ربي من بريق السراب ــ ممن ما زال محتفظاً بإرثه الأخلاقي ، ولم ينجرّ خلف سراب المال ، فتحوّل تاجراً ، وبدّل مهنة الطب ــ على نبلها وإنسانيتها ــ إلى حرفة جني ربح، ومكاسب لحظية زائلة ولا يتسع المجال لقصص تُروى أو تُعاش في هذا المجال ، وهو ما جعل السراب أكثر حضوراً من الماء الذي وصفه الخالق عز وجل في القرآن الكريم : (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وتتعدد هذه الهلاميات السرابية التي تصادفك في كل مفصل من مفاصل الحياة حتى تكاد تصاب بتخمة المشهد ، فلا تكاد تبصر غير السراب من السراب في السراب ، ولأن من لا يستطيع أن يخادع نفسه ويكذب على عينيه ، فلا بد أن يعيش على الظمأ بدلاً من انجرافه في تيار الخداع والغش الذي يبدو أنه صار معياراً من معايير النجاح و رائزاً من روائز الحكم على الشخص ، ومدى قدرته على النجاح ، فيما يُسوّق له على أنه فن التكيف مع الواقع ــ لا أوقعكم الله في بريق سراب ــ ، وهكذا تبدو هذه الأسماء البريقية محط اهتمام وعناية وتسويق من قبل من يجدون فيهم فرصة لكسب ما ، فيمنحونهم ما يكفي من التلميع والتزيين في ظل ما استجد من معطيات التقدم العلمي في مجالي الطب والتكنولوجيا على حدّ سواء اللذين لم يتركا مكاناً أو مجالاً إلا وتجدهما قد نالا منه ما نالا ، ولعل نظرة في وجوه ممن يشتغلون في الإطار الفني تعكس مدى التعدي على ما خلق الله وكوّن ، فلا الأنوف أنوف ، ولا الوجوه حافظت على جمالها الذي وهبه الله لها ، و هذا الهوس انتقل بحكم التقليد الأعمى ، وتشهّي البريق ما جعل النساء من أوساط غير فنية تحذو حذو الممثلة س أو تقلد المطربة ع ، وقد سمعت عن قصص وأحاديث ممن قلدن وفقدن الكثير من جمالهن ، وما السبب إلا بريق الأسماء التي تخلق هالات من السراب حولها ، وما هي في الحقيقة إلا فقاعات الصابون التي تتلاشى مع أول نسمة تهب ُّ عليها .
د. وليد العرفي