يفتح المفتاح الباب الخارجيّ للمنزل، رأساً تسحبني قدماي لِباب الحمّام، بعدما قرأت عيناي ورقة زوجتي: «أنا عند والدتي مع الأولاد، لنْ أتأخر»!
قبضتي تفتحُ الباب، ياللمصيبة، ياللهول، ها هو أمامي مُضرَّجٌ بحزنه، بدا هذا من عينيه المُعاتبتين..الرّعب ينهشُني، لا أحد بالبيت إلا أنا والقتيل، والأبواب السّود، والنوافذ المُوصَدة! نعم، سأتّهم بقتله، أنا بعمري لم أتجرّأ على قتْل نملة! الآن تخترق أذنيّ وكياني آلاف الأبواق، لسيارات الشرطة والإسعاف، وأزيز رصاص. الوقت بالخارج قبيل الغروب.. سعادتي تغرب، يسيطر عليَّ خوفٌ أسطوريٌ. قلت بِسِرّي مُهتاجاً: «لقد رُحتُ فيها، ثمّ هل يكتفون بسجني»؟! وقلت: «وهناك، بغياهب السّجن، سأقضي حكماً مُؤبَّداً، بل إعداماً، ومَنْ يدري ماذا بعد؟ الطف بعبدكَ الفقير يا ربّ». القتيل وأنا، وأثاث البيت الدّاكن، حجراته، حمّامه، مطبخه، باللون الرّمادي المقيت، ولوح صابون بالحمّام.. أخرج القتيل من البيت، أغسل يديَّ بعد دفنه وتصريفه، بالصابون أستحمّ، تنتفي بقع الدمّ، تنتهي المشكلة»! أتوكّأ على قدميّ، بل على عكّازة خوفي، أرْنو من نافذة الغرفة المطلّة على الشارع العامّ، أحاذرُ أنْ تراني عينٌ ما، وقفتُ لأتيقّن، هل السيّارات والعيون تقف أمام البناية حقاً؟ أم أنّني أتوهّم بدافعٍ من هجمات الفزع، الذي سيطر على خلايا مُخّي؟ عيناي تجوسان الشارع طولاً وعرضاً، أسطحَ البنايات، شرفاتِ المنازل، المارّة، الأرصفة، كلَّ العشب الأصفر، والأشجار اليابسة بالحديقة القريبة، أمام البناية، لم تعثر عيناي على أيِّ أثرٍ، يدلّ على أنّني مُراقَب، أو مُتّهم. أرمِي شيئاً منْ فزعي عند حافّة النافذة، روحي مُهتاجة اهتِياجاً حادّاً، خوفي حجرُ طاحونٍ، يدقّ أشلاءَ فرحي وعظامي. الليل بدأ يسيطر بإحكامٍ على عنق الشارع، زوجتي تأخّرت، لو كانت إلى جانبي، لعَرَفْنا كيف نتدبّر أمرنا! من شقّ الباب المُوارَب، كان لا يزال مُستلقِياً على ظهره، عيناه المعاتبتان، اخترقتَا كلّ بؤر الخوف بصدري، استوطنتاه، خِلتُ نفسي مُجرماً بالفعل، وقفتُ أرقب هذا الكائن المُسَجَّى، تجرّأتُ، اقتربتُ، لامستْه يداي، قلّبتاه يَمْنَة يَسْرَة، على وجهه، على قفاه، لم تقع عيناي على نقطة دمٍ واحدة، عاد إليّ فُتاتٌ من تشوّش روحي. قلت: إغْماءة أو إغْفاءة، وتعود إليه الحياة، فيعود إليَّ فرحي.. الوهمُ بِسِرِّي يتندّرُ عليّ، يهزأ بي، الوهم ينهشني، كوحشٍ خرافيّ.. لنفسي: «ماذا أفعلُ يا ربّ! رحمتك وعفوك»! وبلغة الخوف والنداء نَبَسْتُ: «ياللمصيبة»! وردّدْتُ «أنا عند أمّي بزيارة خاطفة، انتظرْني»!
يا لهذه الزّيارة! كيف غادرْتم البيت، والضّيف فيه! شرّقتُ بتفكيري وغرّبت، يلتهمني حصارٌ مدجّج، يبعثر بقايا قوّتي.. صار جسدي مروحة سقفيّة تركض لاهثة بلا جدوى، أضحت نفسي سنداناً لكلّ مطارق الضّجر والخوف، هاتف البيت ذو اللون الأصفر، أو البرتقالي، قريبٌ من بصري، بخوفٍ أجاوره، مرتجفةً تمتدّ إليه يدي، أريد أنْ أهمس بأذن زوجتي: «أنْ تعالَي بسرعة»، أصابعي تحاول أنْ تتسلّق مسماع الهاتف، بذعرٍ تتوقّف، تتثلّج، لكن يا لحظّي السيّىء، إذ لا هاتف بمنزل أهلها:»سامحكِ الله، كيف تبتعدين عنّي، وأنا بخضمّ هذا الجوّ العصِيب»؟ بلحظةٍ ما، نسيتُ كلّ الكلمات، فقدتُ أبجديّة فرحي، والأبجديّات كافّة.
كلّ شيءٍ الآن رماديّ بنظري، صورة القتيل تتأطّر الجدران، الأثاث، الأسقف، الأبواب، والنوافذ، بلحظةٍ، بغيبوبةٍ، أضحيتُ أنا القتيل، أنا الجريح، أنا النّازف! من جديد، بلحظةٍ رماديّةٍ يسُوقُني خوفي إلى النافذة المُطلة على الشارع، لا شيء من خلالها يدلّ على أنَّ هناك خطراً يتهدّدني. بداخلي نبَتَ شعاعٌ لصوتٍ فيه جرأة واضحة، قال:»ما دمتّ تدّعِي البراءة، فَلِمَ الخوف والقلق؟ كنْ شجاعاً، تصرّف! يدعمه صوتٌ ثانٍ، يزرع شيئاً من الثقة بنفسي: «الطبيب الشرعيّ، البحث الجنائي، مصوّر البصمات، مكتشفُها، ومعهم القاضي، والنّيابة، سيقولون لك: براءة، لأنّه لا أثر لك بالجريمة»! هذه المرّة تقدّمْتُ نحوه بشيءٍ من الثقة، وقوّة الأعصاب، لأتيقّن إذا ما كان «حوض الحمّام»، لا يزال عالقاً به، أم لا. خيّبتني ثقتي، ارتدّ إليّ خوفي، بَدَوْتُ ريشة في مهبّ الرّيح، أو كطائرٍ خرب عشّه! من جديد، لا أدري كيف وصلت النافذة، كم قطعتُ من الأميال! كان الشّارع مُسَرْبَلاً بظلام قاهر، إلّا من بعض المصابيح، التي كانت تسعلُ ببعض الضّوء. «أين أنتِ أيّتها الزوجة غير الوفيّة، زوجك يتقلّب على الجمر، وأنت عند أمّك في مرح وثرثرة»! أعصابي المتوفّزة تسمع وقْعاً على الدّرج، أصواتٌ مُغَمغمَة تقترب من بؤرة خوفي، منْ بينها، وبلحظة تاريخية رائعة، استطعت أنْ أميز صوت ابني صاحب السّنتين، بكاؤه ينفذ إلى خليج الخوف بصدري، صوته الملائكيّ، يعيد إليّ بعض شتات روحي، من صوته عَرَفْت أنّهم جاؤوا، أمتطي ساقيَّ كحصان، أندفع بقوّة إلى الباب الخارجيّ ملتفتاً خلفي، وأنا أدوسُ كلّ خيول خوفي وقلقي. أمامهم كان وجهي ينمّ عن أمرٍ عصيب، على رُعبٍ مُؤكّد: «خيراً إنْ شاء الله! وجهُكَ فيه رعب وكلام، اللهمّ اجعل ذلك بَرْداً وسلاماً». قالتها الزوجة! «لا تنزعجي، لا تقلقي، سأخبركِ خبراً غيرَ سارّ، لقد .. لقد مات الضّيف»! مات البلبلُ الصّغير، ذو الألوان المُزَرْكَشة، والصّوت العذب، عرَفْتُ أنّك وضعتِ له طعامه وماءه قبل ذهابكم، وأنّك أوْصَدتِ عليه باب الحَمَّام، فمات مقهوراً! اندفع الأولاد ثلاثتهم، يريدون دخول الحمّام لرؤية الضّيف، إذ اشتاقوا إليه؛ منعْتُهم بحجّة، أنّه نائمٌ الآن، لا أريد لأحدٍ أنْ يزعجه.. نام الأولاد، وكلٌّ منهم يحلم برؤية الضّيف الصّغير، ومداعبته صباحاً، كما فرحوا به وداعَبُوه، بالأيام الثلاثة الماضية؛ أمّا زوجتي، فقد ظهر بوجهها معالمُ حُزنٍ وضِيء.
وجيه حسن
المزيد...