أمشي إلى مدرستي بخطوات متسارعة…..
الشمس تركل خدَّي بضرباتها الشباطية ( نسبةً إلى شهر شباط ) …أكاد لا أرى أمامي…
الطريق إلى المدرسة ممتلئة بالحصى
في الواقع هو طريق ممسد بالاسمنت ، ولكن منذ دهر…
ليس هذا بمهم ، فقد اعتدنا السير على هكذا طرقات ، وبدون أن ننظر إلى ما تحت أقدامنا…
دماغي منشغل جداً بما خلفي وبما أمامي….
لم أنتبه إلى الصوت الذي ينادي ( مشاط …مشاط …) ..
لمحت طيفاً نحيفا يمر قربي ، وبعد أن تجاوزته بعدة خطوات
وقفت…التفتت…إنها صبية في اللامحسوس من عمرها ..تلبس بنطالاً مهترئاً ..وقميصاً فضفاضاً لا يناسبها…
نحيفة كالخيال…ناديتها…فالتفتت نحوي…عدت إليها ، نظرت في وجهها..علامات المرض ترهق تفاصيلها…قلت لها : بكم المشط .؟؟
– بالمبلغ الذي تضعينه سيدتي..
– لا أحتاج مشطا ولكنني سأشتريها كلها.
_ شكرا لك سيدتي ، لكن ..خذي ما تحتاجينه فقط..
_ لأنك أنت من تبيعينها ، سوف أشتريها منك ..
_ لماذا ؟؟؟ وهل تعرفينني ؟؟
_ لا..لا أعرفك ..ولكنني أحترم عملك …
_ تحترمينني ؟؟؟ !!! …تحترمين صبية تمشي بثياب مهلهلة في الشوارع ، وتنادي لتبيع ؟؟!!
تلعثمت قليلاً..شعرت أنها تسخر من فكرة في رأسها لم تخطر لي …فقلت بخجل ..
_ هل هذا خطأ غاليتي؟؟!!..
_ خطأ ؟؟!!!!! …اسألي المجتمع…اسألي الرجال …اسألي الشوارع….
هل من الصحيح أن أعيش على هذا النحو أم من الخطأ.؟؟؟
اسألي المعنيين ..
وعدوني بتأمين دواء الأعصاب الذي أحتاجه دوريا..وأعمل لأجله ولأجل دواء زوجي الذي أصيب في الحرب التي تشن علينا
شعرت أنني مذنبة …ربما كنت أنا السبب في كل هذا ..؟؟!!
لكنني لستُ كذلك…وماذا علي أن أفعل ..؟؟.
راتبي لا يكفي تكاليف حياتي ، فكيف أساعدها ؟؟
وهم لطالما تكلموا في الكتب المدرسية ، عن ضرورة مساعدة الفقير والمحتاج ، وعن التكافل الاجتماعي…
لم أتكلم …شعرت بالحرج الشديد…قلت : _ أنا لم أقصد الإهانة …ولكنني أحترم حقاً أنك تعملين بشرف لتحصلي على ضروريات حياتك بينما هناك من تتبع أسوأ السبل لغرض الترفيه وليس للضرورة…
– أعلم …أعلم ..أنك لم تقصدي إهانتي..ولكنك الآن أهنتني..
فليس عملي واجباً …ولا محببا…وإنني ألاقي منه ما ألاقي ..
ما يؤلمني ..أن الشوارع تعبت من حذائي المثقوب..وعيون الناس لم تتعب ولم تشعر بي …
لا أريد هبة ..ولا منة ..أريد عملاً يحفظ كرامتي وكرامة زوجي ..دون أن يحاول أحدهم ملامسة كرامتي بكلمة …
– صدقت…أيعقل أنك لم تجدي عملاً لائقاً بعيدا عن الشوارع
– صدقيني …الشوارع أكثر أماناً من الأماكن المغلقة …
هي رحيمة بي أكثر ممن صنعوها…
– حسناً …لقد تأخرت …أشتريها كلها …
اشتريتها ، دفعت المال واستدرت محرجة ..منقبضة الصدر
ثم نادتني ….
– سيدتي !!! …ألم تعرفيني حقاً ؟؟؟
رمقتها مطولاً …
– أشعر أنني أعرفك …لكن …سامحيني ..
– أنا رفيقة لك في المرحلة الإعدادية ، كنت بطلة رياضية في كرة السلة…ولطالما ضحكنا…وتسلينا…ولعبنا سويا..
– أنت ؟؟؟!!!
تذكرتها …بطلة المدرسة والمدارس كلها ، كانت ممشوقة ، جميلة…مشرقة …نشيطة …مبهجة …لكن كيف ؟؟؟
هي لمحت علامات الاستغراب على وجهي…فقالت..
– أعلمت لماذا انفعلت وقلت لك ما قلت…لا تستغربي صديقتي…..إننا ضحايا الحرب…والفساد .
نداء يوسف حسين