25/12/1979
سألتْني الجنون عن شكل القلب، قلت:” يصفونه إنّه صنوبريّ الشكل”،
مدّت يدها إلى الجهة السّفلى من القلب وقالت:” أحسّ أنّ الثلث الأخير من هذه الجهة لا يمرّ فيها إلاّ الدم الأزرق”،
كتمتُ ضحكتي بصعوبة من تلك الطفولة العذبة، وذلك الخيال الذي يحيّرني كيف يجيء، .. قالت:” لا ادري إلى أين يأخذني صوتُك حين أسمعه على الهاتف، صحيح أني أشتاق لرؤيتك، ولكنّ صوتك يحملني إلى عوالم أعجز عن رسْمها”، .. تابعتْ بجدّيّة كاملة قالت:” لماذا كنتَ عابس الوجه البارحة”؟!!،
أدركتُ بحكم معرفتي بعوالمها أنّها تتكلّم عن حلم رأته، قبل أن أنبس بحرف واحد، غمرتْ وجهها نشوة، وبانسراح حالم ، قالت:” البارحة جئتُ إليك فوجدتُ غرفتك مُقفَلَة، نقرتُ البابّ فلم يُفتح لي، كرّرت النّقر بعنف، فلم يُجب أحد، علمتُ أنّك غاضب، فأحضرتُ أفقاً من الحروف، وأحطتُ نفسي بها،كانت كلّها مُضيئة، وهي أكثر من عدد الأبجديّة التي تعلّمناها، وبدأتُ أنتقي منها..”، .. صمتت فجأة وتخضّبتْ عيناها وقالت:” لا أستطيع أن أُكمل، أرجوك سأكتب لك ذات يوم..” ، التفتت إلى أفق النّافذة وقالت:” لماذا لانرى أعيننا؟!! هل تعلم أنّ في العين معاني لاتُرى إلاّ حين نرى أعيننا”، والتفتتْ نحوي بموجة عارمة من الحنان وقالت:” لماذا ترفضني حين آتي إليك”؟!، لم تنتظر أيّة إجابة بل وضعتْ حمَالة حقيبتها في كتفها ووقفتْ تودّعني، أطالتْ وضع يدها في يدي وقالت:” هل تعلم ماذا يقول كفّانا”؟، قلت:” لا”، قالت:” ذات يوم سأدع كفّي في كفّك نصف ساعة، وسأًترجم لك ماذا تقولان”، وانفتلتْ، وغادرت كموجة من حلم، انصرفتُ لبعض شأني، ففاجأتني بإطلالتها من باب المكتب، أطلّت كحمامة عائدة من سفر بعيد، وبكلّ ما في عينيها من وميض قالت:” لا تنس أنّي بحاجة إليك أكثر من حاجتك لي،” وأغلقت الباب ….
20/5/1979
البارحة زارتني “ الجنون”، وكانت جلستُنا تنويعا على جلسات سابقة، ولم تخلُ من بعض الإضافات، ومن تفتُّق زهر له رائحة الحزن والسفر، قلت لها:” ربّما تمنّيت لو عشنا تحت سقف واحد”، نظرتْ بانشداه المُفاجَأ، وانسحبت الحياة من وجهها، وامتقع لونها إلاّ من عينين نظرتا إلى ماوراء خطّ الأفق، وبدا أنّها قد انفصلتْ عن المكان، ولاحت غمامة حزن في عينيها، وقالت هامسة وكأنّها تحدّث نفسها في خلوة بعيدة،.. قالت وهي في انشداهها بين الوعي والغيبوبة، وبتساؤل مُفعَم بالرقّة والحنان، وبلهجة تنمّ عن رغبتها في معرفة أمر ما، :” هل خامرك هذا منذ زمن طويل”؟، قلت:” نعم، بعد أن تعرّفت عليك أكثر”، قالت وكأنها تخلع ثوب الحياء:” أنا سعيدة بهذا الكلام”، وساد صمت فيه من الأنس قدر مافيه من وحشة الغابات من روعة وجمال، قالت ساهمة:” أنت البدويّ في طباعك تقبل هذا”؟، وقامت بسرعة وغادرتْ وهي على ذلك الانشداه؟؟
يصعب تذكّر كلّ ما يدور من أحاديث، فالعذوبة تطغى لدرجة أنّك تعجز عن التقاط كلّ ما يُنثر..
قلت:” أعتقد أنّ معاناتي ستكون أكبر من حجم تحمّلي”
قالت:” لن أدعك لنفسك حتى وإنْ ابتعدْنا”
قلت:” أخشى أن أتهدّم على نفسي”
قالت:” مجنون”
قلت:” مجنون فهمناها، ولكنْ .. لماذا ؟!”
قالت: لأنّك تحبّ بهذه الطريقة، أنا خائفة عليك من نفسي…”
المزيد...