إنها البراءة الممزوجة بالألم تشوبها أحزان أطفال تهاوت ضحكاتهم وتلاشت أحلامهم حتى بلقاء ألعابهم مع شروق شمس يوم جديد … فما حدث أكبر من أحلامهم الطفولية البريئة…
السادس من شباط، تاريخ …كيف له أن يمحى من ذاكرتهم … وثوان كانت الأقسى في أعمارهم الوردية … ثوان دفنت معها أجمل لحظات طفولتهم ..لحظات عاشوها بكل تفاصيلها خلف الجدران المنكوبة وفي حنايا بيت بات أطلالا … … يقف الزمان عندهم عاجزا …المكان ليس بالمكان… تغير المكان وتغير معه كل شيء … كيف نبرر لهم هذا الخراب … كيف نخطف من العمر لحظة ننثر فيها بعض الفرح….
في مركز إيواء مدرسة محمود عثمان بحمص التقيناهم … يبحثون في الأرجاء عن بعض أمان … وبعض لعب في ساحة مدرسة كان لبعضهم موعدا نرجسيا بلقائها …لكن ليس كهذا اللقاء …يتردد في سمائها صدى ضحكاتهم المعتقة بجرس حزين ويعلو صوت أوجاعهم …. لماذا نحن هنا؟؟؟…
لا ادري كيف اقتحم عليهم هذا الشعور وأغوص في أعماق طفولتهم …كيف لي أن أعيدهم إلى قسوة المشهد وانبش من ذاكرتهم خوفا من مجهول صار لديهم معروفا … هو الزلزال … ربما لن أصمد أمام إحساسهم بالوجع … ما أقسى هذا اللقاء…
أقترب منهم … للحظات يعتريني خوف من السؤال وإرباك .. وتردد .. … وبشجاعة لملمتها من ابتساماتهم الهاربة من لحظة سعادة … من استقبالهم الجميل لي… بادرتهم بالسلام .. وبنبرة خجلى أتابع الكلام ماذا حصل معكم؟ حمدا لله على سلامتكم
أحدهم وبنظرة تختزل عمرا صغيرا وتجربة كبيرة مع الوجع قال : “لا اعرف ماذا حدث كنت نائما واستيقظت كان البيت يتأرجح بنا ..ركضت مذعورا مع عائلتي وخرجنا من بيتنا الذي لم يعد آمنا للسكن …لن أنسى لحظات الرعب والخوف والبرد حيث كنا حفاة وكان الجو ماطرا وشديد البرودة …”
وتابع “كنت سأستلم في ذلك اليوم جلائي المدرسي ..اشتقت لمدرستي …افتقدها كثيرا.”
ويشاطره آخر قسوة اللحظات ..وهو يريح مابقي من فرحه على حائط مدرسة محمود عثمان بحي القصور … حيث التجأ مع شقيق والده المفقود. ويقول اسمي عدنان وعمري ١١ عاما وهذه شقيقتي عبير … عندما حدثت الهزة الأولى شعرنا بخوف كبير ولم نكن نعرف ماذا يحصل ولكن عندما حدثت الهزة الثانية هربنا بسرعة حفاة الأقدام وقضينا حتى انبلج الصباح في ساحة سعدالله الجابري …وأضاف “نحن هنا مع شقيق والدنا فأبي مفقود وأمي متوفية” . وتكمل الأخت التي تكبره بعامين ” كانت ليلتنا الأولى في ساحة سعدالله الجابري وبعدها جئنا إلى هنا …حيث وجدنا بعض الفرح ..لعبنا وحضرنا مسرحية ورقصنا … هنا طلبوا مني أن اكتب وارسم …رسمت يدا وكتبت تحتها هذه يدي.. ”
وإلى جوار هؤلاء الأطفال …بمكان ليس بعيدا ..في ركن هادئ في باحة المدرسة لمحتها …بيديها أقلام تلوين …ترسم وتمحو …وتعيد الكرة مرارا … بادرتها .. ماذا ترسمين … ودون أن ترفع ناظريها للأعلى … قالت ..لعبتي..تركتها في بيتنا في حلب.. خرجنا مسرعين .. كانت لعبتي الوحيدة ..كنت أحبها كثيرا…
وبوجه غالبته العبرات … “لعبتي دفنها الزلزال” ..ثم أشاحت وجهها الحزين عني و قالت …اسمي ايناس١١عاما في الصف الرابع وعندي رفاق كثر … أحب معلمتي واشتقت إليها…
وتابعت”هذه ماسة عمرها ٣ سنوات وتحب اللون الزهري”
…كان اللقاء معهم كما فراقهم موجعا ..ليس غريبا أن يحدثوا فينا عصفا في القلب ونزيفا حادا في الروح ………
يا لطفولتهم الثكلى …عانوا خلالها سنوات طويلة من الحرب …حرموا خلالها حياة عنوانها المرح وعالما حالما دمرته هذه الحرب … ويأتي الزلزال ليمحي ما بقي لديهم مما يشبه الأحلام … كم يصغر الكون أمام ما حصل لهم …
أطفالنا … يا وجع الأرض لكم منا كل الأمنيات بفرح قادم يشفي جراح الأحزان….
عبير زرافة