عندما شرعت في كتابة هذه الشهادة وجدت نفسي مندفعًا بقوة لكي أفي مبدعًا يستحق الكثير مستندًا في ذلك إلى أمور ثلاثة :
الأول : لأنه صديق وشهامته لاتوزن بميزان
والثاني : رغبتي في تقديم شهادة صادقة ليست مكررة وتعتمد على مفاصل إنجازاته القيمة
والثالث : ضرورة الاهتمام بالمبدعين الخلّص وممدوح السكاف من الذين منحوا الشعر حياتهم وروحهم فساهموا بذلك في الحفاظ على شباب اللغة وريعان الأدب
إن الشاعر ممدوح السكاف امتلك مشروعه الشعري وعمل عليه بثقة واعتداد وأناة فلم يأبه لما يدور في الواقع من غث وتكلس، لأن وعيه – على الرغم من صغر سنه في الخمسينات – تجاوز نظريات المراوحة في المكان ، ولأن حلمه تفتق في ربيع خالد ، فقد أدار ظهره للطمّ والرّم من الشعر العقيم وتطلع إلى فضاءات شعرية قلما وصل إليها شاعر ، ولا أدل على ذلك مايورده الشاعر ممدوح السكاف في شعره من اشتقاقات ، ودلالات ، وتكثيفات ، ومرموزات بدءًا من فواتح القصائد ولغاية نهاياتها. لقد استبحر في قصيدته فكتبها وكتبّته، واستغرقها واستغرقته بحيث تندي نفس القارئ وتحمله على فسحات من الإدهاش وأدواح عامرة مجلوة مقمرة.
تأصيل القصيدة الحديثة
إذا كان الفرق بعيدًا بين شعر يتشظى في الفؤاد يورد منه المؤلف تحقيقًا لحلم وبين شعر يكتب إشباعًا للذات ، فإن الشاعر ممدوح يقدح القرائح بالفكرة السديدة ويجاري النبض بعواطفه الدافقة ويستفز المشاعر بخياله المحلق، وبهذا عمل الشاعر ممدوح السكاف مع مجموعة من الشعراء العرب الكبار على تأصيل القصيدة الحديثة المعاصرة ومنحها هويتها وروحها كما عمل على تخليصها مما لحقها من الشوائب في بنيتها الفنية والفكرية ، وقد يكون متفردًا في عمله نحو صياغة قصيدة رومانسية لها قدسيتها عبر اجتراحات شعرية يغلفها السنا ويبارك انطلاقتها قطار الأمل والحلم .
وبناء على ذلك تابع الشاعر حركة الحداثة في الوطن العربي وانخرط في نسيجها فاعلاً وواثقاً من جدواها ، فإذا به يغدو علامة فارقة ومتوهجة في قلب حركة الشعر العربي الحديث بسبب خصوبة رؤيته الشعرية وخصوصية مفهومه لإبداع الشعر وعشقه المبهر لولادة القصيدة الناغرة بالأسئلة والحياة والبارقة لسياقات رؤى فاعلة ومؤثرة في صياغة منتج يتأسس على استجلاء النفس ومكاشفة كينونات الوجد وماهية الاختراق ، لكي تستشرف القصيدة فتنة الوجود وتغفو على ناصية الشعر الذى يفيض بالأسئلة والدرر.
والمدقق لقصيدة ممدوح السكاف يعجب من بنيتها المتوفزة وحيويتها التي تتصف بالسهل الممتنع والتي تدفع القارئ نحو الاستبصار والاندماج بهذا المدى الشعري الذي يؤطرها وهذه البيئات اللغوية النقية التي تحكمها وهذه الصياغة الإبداعية ذات البنى الجمالية والاستفزازية المتفردة ( كيف يكتب الشاعر إذا لم يعش كل إشراقة شمس تجربة إنسانية عميقة الشأن والأهمية والمغزى فهي فياضة بالرؤى الحساسة المتقدة والانفعالات الداخلية العاصفة) ماتقدم يفتح شهية القارئ على تقري درامية قصيدته وانسجام عناصرها وغليانها وحيويتها .. لكأن ممدوح هو القصيدة ولكأن القصيدة هي ممدوح , لاندري حجم سحرها لأنه اخترق حلمه الشعري وصوره المولدة وخياله المجنح وإيقاعاته المتوفزه أو سحرته بانتمائها الجارف لروحه الشفافة وعشقه لهذا الجنس الأدبي الذي رافق عمره , ولهذا صحبه في حله وترحاله في فرحه وحزنه وإيماءات عطاءاته المتنقلة.
( إن من جملة مهمات الشعر العربي المعاصر أن يعبر عن الحالات النفسية والمشاعر العاطفية والانفعالات الذاتية للشاعر وللمنظومة الاجتماعية في شرائحها وفئاتها المتباينة وأوجه ثقافتها وتفكيرها ووعيها)
لقد أسس الشاعر ممدوح السكاف تجربته الشعرية بالارتكاز إلى توجهات آمن بها ومفاهيم شعرية حداثية تساير التيارات الإبداعية التي برزت بشكل واضح في الوطن العربي أواسط القرن العشرين والذي أسهم في بروز هذا الشاعر وتسنمه سدّة الإبداع بقوة إصراره على التميز وإيمانه بالقصيدة الرومانسية الحديثة ،لأن الكثيرين تراجعوا كونهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من إبداع الآخر فظلوا صورة ممسوخة عنه. أما الشاعر ممدوح السكاف فقد التصقت تجربته الشعرية بإبداعه وفي فلك ابتكاراته لشكل و مضمون القصيدة التي يرُيدها وتمايزت في معالجتها لموضوعات وطروحات تعكس وهج المعاناة وبوح الذات لتضيء ما حولها وتنسرب في الأوراد من خلال تشكيل شعري ولود، وتكثيف شعري مهندس، ورؤية جمالية لامحدودة، وموهبة إبداعية لا تختبر تطلعات النفس ومفازاتها فحسب، بل تنير وعياً متقدماً بالوجود والهم الإنساني والقلق الممهد لمعطيات الألم والإحساس المتنوع بالسفر والغربة والتغرب والوجود والرحيل وغير ذلك .
تنوع أساليبه الشعرية
إن شغل السكاف على تخصيب قصيدته بالجديد والحداثي والحزن والفرح والقلق والرؤى لم يخلعه فنيات القصيدة العربية الأصيلة ومتانة سبكها ولغتها الحية وإنما فعل ذلك لكي تعيش هذه القصيدة وتتساوق مع شكلها الحداثي المقنع ، والقارئ المتأني لإبداع ممدوح السكاف يلتقط أمورًا تحتاج إلى وقفات ودراسات فقد نشر أول قصيدة بعنوان حلم عام 1955 في مجلة النقاد السورية وكتب في فن القصة وتوقف عام 1970 وأول مجموعة شعرية نشرها بعنوان (مسافة للممكن ..مسافة للمستحيل) 1977 وأعتقد أن عنونة قصيدتة الأولى باسم حلم كان يعني بها الكثير ، لأنها منطلق مشروعة الشعري وعنونة مجموعته الشعرية باسم (مسافة للممكن مسافة للمستحيل ) هو إعلان صريح عن فلسفته الشعرية التي تبدأ بخصوصية الممكن وتسعى للتحول نحو واحات بكر مهمة وجديدة متجددة وبهذه المناسبة فإن عناوين مجموعاته الشعرية ترتبط بمسارات شعره إلى حد التلاحم (في حضرة الماء 1983 )
( انهيارات 1985 ) ( فصول الجسد ) ( الحزن الرفيقي 1994)
(على مذهب الطيف 1996) فللماء دوره في الحياة وللشعر دوره في تندية الروح فكما نمتح من الماء من أجل البقاء !فإن الشاعر يندي روحه بعبق الشعر وبناء على ذلك فالماء والشعر صنوان .
المرأة في شعره
هذا وللمرأة دور كبير في حياة الشاعر وشعره ولابد من التوقف طويلاً عند فصول الجسد ففي هذا الديوان يتقرى جوهر الحياة ويناقش جدلية العلاقة بين المرأة والرجل وهذا يعني في أن مخيلة الشاعر شيدت قصورًا زهرية للمرأة مفعمة بطاقات الود والحب والتثمين فهي أم وحبيبة وأخت ومعشوقة …و..و..إلخ
دلالات الحزن عند السكاف
وبدهي أن يكتشف القارئ دلالات الحزن في شعره وأثر نكسات الأمة على المبدعين ..ويتمحور عنوان ( على مذهب الطيف) حول الرؤية الثاقبة للمستقبل من خلال المرأة التي تمثل الخصب وتدل على استمرار الحياة وخضرة المستقبل ..أليس هو القائل ( كل امرئ يصبح شاعراً إذا مسّه الحب إن مخيلة ممدوح الأنيقة الصاهلة ولغتة الشعرية الصافية النقية البعيدة عن الترهل والابتذال/ ساهمتا قي تبلور سحر قصيدته وصياغة كوكبه الشعري .
أيها الصديق …الذي يزدهي به الشعر والشعراء والإبداع والمبدعون مهما كتبنا عنك فلن نوفيك حقك لأن روحك تعبق بالوفاء ولأن شهامتك تسابق الريح ، ولأن إنسانيتك الصافية قلمّا نجدها عند إنسان تحب الخير لغيرك قبل ذاتك وتفرح للإبداع أينما وجد وتحتفي بإنجاز أصدقائك كما لو أنه إنجازك.
أيها الصديق رحلة جميلة بحلوها ومرها عبرناها معًا : من لقاءاتنا في المركز الثقافي … في اتحاد الكتاب العرب ، في المحاضرات والندوات في المهرجانات في تجوالنا في أحياء حمص هنا وهناك .. وفي غير بلد عربي، في جلسات بوح قلّما عقدت بصدقها وروعتها وذكرياتها وخواطرها وأبجديات ألقها بين اثنين سواء أكان ذلك في الغربة والاغتراب أم في بيوتات حمص ونواحيها ومقاهيها . لقد أسرتك هواجس قصيدتك فأحبك الأصدقاء وانتشوا بلغة حياتك الآسرة ونسيج إبداعك المبهر لأنك تعتبر ( القصيدة شيء آخر) ولأنك شاعر له خصوصيته في العطاء والإبداع كنت تكره الأضواء وتثق بنتاجك .
( اذهب إلى الحقل .. اذهب إلى الفراشة الملونة تمدد على الحقل الفسيح ..واقرأ الفراشة الملونة) ولأنك كذلك محوت الزيف من ذاكرتك وتوغلت في تويجات ياسمين الأفئدة ولم تتوقف برهة عن العطاء، لأنك دائم البحث عن الإبداع ( لخصوبة أبحث عنها منذ فجر الوجود وهي كمون في قاع روحي المكبوحة )
صديقي :يا من أبدعت شعرًا خالدًا فغار شعرك من نثرك وغار نثرك من شعرك.
صديقي : يا من سعيت من أجل المستقبل ومن أجل اكتشاف العالم والرؤى الملونة ومن أجل الشعر والإبداع والحلم الأخضر وحماية الإنسان .. أهنئ نفسي لأنك مازلت شامخ الحضور رغم غيابك ..
د. هيثم يحيى الخواجة