تعكس الكتابة الإبداعية همّ الشاعر الوجودي في الحياة ، كما تُعبّر عن قلقه المستمر بما يمتلكه من رهافة حسٍّ ، وإدراك للواقع تجعله في حالة لا تعرف السكينة ، كأنما قدر الشاعر أن يكون كما وصفه الشاعر المتنبي :
على قلقٍ كأنَّ الرّيح تحتي ،وقد تبدّى هذا القلق ، وتلك الحالة المتحفّزة في منتج شعري تمثّله القصيدة التي وسمها الشاعر: محمَّد حسن العلي بـ : ( سوريَّتي) يُشكِّلُ العنوان في النصّ الإبداعيّ العتبة النصية الاستهلالية التي تكون مفتاح الولوج إلى معبد القصيدة التي يُهندس الشاعر بناءها بمداد الدم ، ويبني لبناتها من نفحات الروح ، وهو ما يكشف عنه هذا التّجغرف الذي يُعمّد الشاعر نفسه فيه مؤكّداً تعلَّقه بالوطن سوريّة من خلال ياء النسبة التي تفيد عمق الانتماء والترابط بين الذات الشاعرة ، والوطن الذي يتماهى الشاعر فيه من خلال إلغاء ذاته في حدود جغرافية المكان الذي يُمثّل للشاعر الأرض التي يعشق ، والحبَّ الذي يعيش والحالة الوجوديَّة التي يتحرّك فيها ، ومن خلالها ، فالعنوان ذو مقصدية ومغزى قد يكون ظاهراً ، وربّما جاء عفوياً ، بيد أنه في حيز التحليل النفسي لا يأتي عبثاً ، وإنما هو توجيه مقصود ، ويأتي (بوصفه فعلاً من أفعال الكتابة ، ينتج تحت قوة الإرادة من حيث هي مشيئة وعزم ، وما يخالج هذه المشيئة من معاناة في إخراج العلامة التي تتحرّك وفق قصدية من المُرسِل إلى المُرسَل إليه ، لتبليغ مقصديات متنوعة ).
وهذا ما نجده في قصيدة الشاعر : محمّد حسن العلي التي يستهلها بإجلال مقام الموصوفة سوريّة ، إنه راهب في دير العشق الذي يبدو فيه الشاعر صوفيّاً يعيش الوله بمن يصف ، فهو يحاول أن يرتقي بحروفه سدرة الموصوفة سوريّة ، فيستهلُّ باسم : ( شرف ) الذي جاء نكرة ليفيد دلالة التعميم والشمول الذي سيفيض على لغة الشاعر التي تتحدث عن سوريّة ، وقديماً قالت العرب : ( لكلّ مقامٍ مقال ) يقول في المطلع :
شرفٌ لشعري أن يكونَ جوانح لخيالِ أمس ٍ لذَّ فيهِ هيامُ
وتتقاطر في حضرة عظمة المشهد الذي يصبح الشاعر فيه مُريد جمال ، ومفتون ماض ذكريات الأمس على شريط الذاكرة التي تفيض بألف صورة جمالية من ذلك الإرث الإنساني الذي كانت تعبق فيه سوريّة حيث ليالي الأنس ، وجلسات المودّة التي كانت تجمع الشاعر بالأصدقاء ، فيخاطب أولئك الأصدقاء ، وقد أصبح السؤال بوابة عبور إلى تلك الأجواء التي يفتقدها الشاعر ، إنها عالم الطبيعة البكر الذي يجده الشاعر في الطبيعة مرسوماً بريف سوريّة الوادع حيث الخير العميم ، وهدوء النفس التي تستمتع بمفاتن تلك الطبيعة التي حباها الله لها ، فهاهي ترتسم الدوالي أمام عيني الشاعر صبايا تكتنز أنوثةً ، وفتنةً تسحر من يرى ويسمع :
يا صحبتي فمتى نعودُ لسهرةٍ بينَ البيادرِ والهوى أنسامُ
وإذا الدَّوالي كالعرائسِ تزدهي غنجاً يُصابُ بسحرِها الكرّامُ
هذي الحروفُ كتبْتُها بمدامعي والسَّطرُ بوحٌ والمدادُ غرامُ
غير أنَّ التّخييلَ الشاعريَّ شيءٌ ، وما يتراءى أمام بصر الشاعر شيء آخر ، وهو ما يبعث في نفس الشاعر على الأسى ، ويُمسك عليه نشوة الماضي ، ويُنغص عليه سعادة ذلك الأمس المستحضر المتخيّل الجميل ، ليكون الواقع الصخرة التي تتحطَّم عليها جمالية تلك المرايا بإشراقاتها النفسية ، لتتشظّى في انكسار اللحظة ، ومعاناة الحقيقة الصادمة ، فتتحوَّل الدموع إلى قلم يسطّر تلك الحالة الفجائعية ، وتنطق الأشطر الشعرية بالتعبير الوجداني الذي يبثُّ الشاعر من خلاله ذلك الوجع الداخلي ، وقد سارت الرياح بعكس المشيئة ، وقد أحالت تلك المخالفة على تواقع نصيّ مع بيت المتنبي المشهور :
ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يدركُهُ تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السُّفنُ
يقول شاعرنا محمّد حسن العلي :
ورسمْتُ من وطني الجريحِ حكايةً إذْ عاندتْهُ الرّيحُ والأيَّامُ
وعلى الرغم من كل ذلك الألم الذي يعتصر قلب الشاعر ، ويتملَّك مشاعره ، إلّا أنَّ التفاؤل بالنصر هو الإيمان الراسخ ، لأنَّه مؤمن بحقيقة المحبة والسلام التي جُبلتْ عليها طبيعة السوريّ ، وستبقى .
وفي إطار تأكيد القوّة على الانبعاث والنهوض من جديد يستخدم الشاعر رمزية طائر : ( الفينيق ) ليؤكّد قدرة الشعب السوري على تجاوز الحرب ، وتخطّي تبعاتها التي طالت البشر والحجر ، كما ينبعث طائر الفينيق من الرماد إلى الحياة من جديد ، وهو ما يتمنّى الشاعر تحقيقه ، ذلك النهوض الذي يُجدّد الحياة ، ويدفع بحركتها إلى مسارها الطبيعي الذي حاولت أيدي أعداء الحق والسلام أن توقفها ، وتغيّر سمت شآميتها وهاهو الشاعر : العلي يؤكّد تلك الحقائق المُسلّم بها التي اتّصفت بها سوريّة عبر تاريخها الطّويل ، فهي بلد السَّلام و الأمان والحريّة ، كما أنَّ علاقات أهلها قائمة على أواصر المحبة والتلاحم والتعاضد ، وقد لجأ الشاعر إلى تكرار سوريّتي في استهلال أبيات القصيدة ، وهذا النوع من التكرار الاستهلالي التعاقبي إنما جاء ليعزّز الفكرة ، ويؤكّد تجذّرها في ذاته : ( فالشاعر لا يُكرّر لفظاً إلّا إذا قصد من تكراره معنىً أو إيحاءً أو شعوراً خاصّاً )
كما أعاد التركيب الإنشائي بصيغة الاستفهام : (متى نعود ) ؟ وهي صيغة استفهام جاءت بعرفيتها النحوية ، لتنهض بالسؤال عن الزمن ، إلّا أنَّ الشاعر أخرجها إلى حمولات دلالية إضافية عبَّرتْ عن معنى الرغبة والتوق لاستعجال ذلك المُتمنّى الذي أتبع به تساؤله الزمني من خلال : ( متى ) وقد تكرَّر هذا التساؤل في وسط الأبيات ، وفي ختامها ، ولهذا التكرار دلالته النفسية واللغوية على حدٍّ سواء ، فالتساؤل الأول جاء ليفيد حالة الضيق التي يجد الشاعر نفسه فيها بعد مقارنة بين صورة أمس مؤطر بجمال الطبيعة ، وحياة الاستقرار والدعة ، ومشهد حاضر يتَّشح بظلمة الليل ، ويلفُّه سواد العتمة ، فيما جاء التساؤل في ختام القصيدة ليؤكد رغبة الشاعر وإرادته التي تستعجل فعل الانبعاث والتجدد لعودة سوريّة كما يريد لها الشاعر( قصّة عاشق والورد فوق سطورها أكمام ):
سوريَّتي الفينيقُ قصَّة عاشقٍ والوردُ فوقَ سطورِها أكمامُ
لمْ تعرفِ الأضغانَ عاشَتْ حُرَّةً والنَّاسُ يغمرهُمْ هناكَ سلامُ
سوريَّتي غنَّى الخلودُ لأهلِها والحبُّ فوقَ قلوبِهم أنغامُ
وأخيراً فإنَّ قصيدة : ( سوريَّتي ) للشاعر : محمَّد حسن العلي تعكس عمق المعاناة التي يعيشها كلّ سوريّ حريص على عودة سورية إلى سابق عهدها ، وهي تُعبِّر عن تطلَّعات الشعب السوري الذي آمن بوحدة سوريَّة شعباً وأرضاً ، وقدَّم التضحيات في سبيل تأكيد عزَّة الوطن وسيادته واستقلاله .
د . وليد العرفي
المزيد...