حين أعود إلى تلك المقاطع الزمنيّة الخاصّة ب( التعليم)، فلستُ أزعم أنّنا كنّا في أفضل الحالات، بل أُشير إلى ماكنّا متقدّمين فيه ( تعليميّاً)، أمّا مسألة ( التربية) فذلك شأن آخر، ولا أُخفيكم أنّني في حيرة ، من حيث التقييم الذي لايُختلَف فيه، وسأتوقّف عند بعض المقاطع.
كنّا في المرحلة الابتدائيّة، وتحديدا في الصف الخامس، ندرس في قواعد اللغة «الممنوع من الصرف»، وهو، كما سألت في سنوات خلَت، يدرَّس اليوم في المرحلة الثانويّة، وهذه مسألة شائكة في التقييم من حيث أيّهما الأفضل، صحيح أنّنا لم نكن مؤهّلين من النّاحية العقليّة لمحاكمة مايحتاج إليه النّحو من تأهيل عقليّ، يرجع في قسمه الغالب إلى محاكمات منطقيّة، ولكنّني أقول وأنا واثق من ذلك إنّ الذين كانوا يحصلون على شهادة ( الكفاءة)، في الصفّ الثالث الاعدادي، كانوا يُعتبرون مؤهّلين للتعليم في المرحلة الابتدائيّة، ولقد كنت واحدا من تلك الأفواج، التي انطلقت تبحث عن لُقمة العيش، وعمّا يستر الحال.
-لابدّ من التوقّف ولو قليلا عند مسألة دقيقة فاصلة بين ( الخوف ) من المعلّم، وبين (الاحترام)، الحقيقة أنّ معظمنا كان يشعر بالخوف من معلّميه، أمّا الذين أجادوا التعامل معنا، من المعلّمين، والمدرّسين، وتركوا في نفوسنا حالة من (الحبّ)، فقد كانوا قلّة، وهنا ثمّة نقطة جوهريّة في مسألة ( الخوف) التي تنبع من العديد من مناطق حياتنا، من الأهل، ومن المعلّم، ومن الشرطي، ولا شكّ أن معالجة هذا الأمر يحتاج إلى الكثير من الحساسيّة، والبراعة، والمسؤوليّة، نقول هذا دون أن نُغفل أنّ معظم ماكان يُحيط بنا كان محشوّا بالخوف، وكم كانت قليلة كميّة الحب، وهذا، كما هو معروف اليوم في علم النّفس يَترك الكثير من الاثار التي ترافقنا، وإنْ كنّا لانُظهرها، فهي تعرف، نفسيّاً، كيف تأخذ مساربها.
في هذا السياق أذكر أنّ بعض معلّمينا كان في نفوسهم شيء من السلطة غير الرحيمة،
وصلتُ إلى مدرسة «الخالديّة الأهليّة» في اللحظة التي كان فيها أواخر التلاميذ يدخلون صفوفهم، وهنا تلقّاني ذلك المعلّم الذي لاأريد أن أذكر اسمه، كيلا يُعتبَر ذلك إساءة إلى مَن غيّبه الموت، وكان في يده قضيب من الرّمّان، وأومأ لي أن أتقدّم منه، فتقدّمت والخوف يملأ كياني، وقال بزجر:» إفتح يدك»، وكان الصباح شديد البرودة، ولم يكن الترجّي يُفيد في شيء، حين انهال على أوّل يد بالضرب المصحوب بانحناءة في جسده، وبصوت( إحْ) يخرج من حنجرته، لاأعرف ماالذي أصابني، شيء يُشبه مسّ النّار الشديدة الصقيع، وأشار أن أمدّ الثانية، وهكذا انهال بالضرب القاسي، ولم اكن قادرا على وعي عدد القضبان التي انهالت على يد تلميذ في الصفّ الرابع الابتدائي، وحين أشار لي بالانصراف كنت عاجزا عن حمل مافي يدي من كتب ودفاتر، فوضعتها بصعوبة تحت إبطي، ودخلتُ مصحوبا بالبكاء الصامت، والقهر العميق، ولم أعِ شيئا ممّا حولي حتى زال الألم بعد زمن شديد الفظاعة.
-كلّ معلّم كانت عصاه في يده في الصفّ، أحد المعلّمين ، كان يحمل عصى مفلطَحة، يبدو أنّه أوصى عليها أحد النّجّارين، فكانت مصنوعة بحيث يستطيع الإمساك بها، ويضرب راحة الكفّ الصغيرة بالقسم العريض منها، وكان يسمّيها « الطّبّيشة»،
لن أوغل أكثر، بيد أنني لايفوتني أن أشير إلى أنّ( التعليم) في تلك الأيام، كان أفضل ممّا نحن عليه الآن، ولهذا شرح قد يطول، وحزن أطوّل..
عبد الكريم النّاعم
المزيد...