ولد الشعر موسيقا ونشأ أنغاماً تنشد , وظل وفياً لهذه الولادة والنشأة حتى أصبحنا نردد : لا شعر بلا موسيقا ولا أقصد هنا الموسيقا الخارجية المتمثلة في موسيقا البحر العروضي وموسيقا القافية وحرف الروي وإنما أقصد الموسيقا الداخلية التي تتجلى في شعر التفعيلة , وأكاد أزعم أن الشاعر ممدوح السكاف – طيب الله ثراه – من أكثر شعراء الحداثة الشعرية اهتماماً بالموسيقا الداخلية بالإضافة الى محافظته على إيقاع التفعيلة في قصائده وأسارع الى القول : إن منابع الموسيقا الداخلية في قصائد ليست مقصودة لذاتها , أو جنوحاً الى اللعب على الأصوات أو الرغبة في الحذلقة اللغوية وإنما هي لخدمة الحالة الوجدانية التي يريد أن يجعلها حالة شعرية يجسدها في قصيدة ومن هذه المنابع الاشتقاق اللغوي أو الصيغ الاشتقاقية التي برع الشاعر ممدوح في توظيفها توظيفاً معنوياً فنياً وسأعمد في هذا العرض المتواضع الى اقتطاف الأمثلة والشواهد من قصيدته – الجذور في مجموعته – على مذهب الطيف – الصادرة ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب عام ستة وتسعين فمن الصيغ الاشتقاقية الموظفة فنياً لخدمة المعنى قوله :
آه .. من يحبو الى جسد عنيد
أو الى حلم شريد
أو يحابي وردة وردت لموردنا الذبيح
ذبلت بملح هجيرنا كذبالة المصباح وافى
الموت في برد
وما هجرت شواطئنا
ففي هذا المقطع الصغير نجد مجموعة من الصيغ الاشتقاقية , المجموعة الأولى : وردة وردت , موردنا . والمجموعة الثانية « ذبلت , ذبالة والمجموعة الثالثة : هجيرنا , هجرت ». وغير خاف على القارئ الموسيقا التي خلقتها هذه الصيغ !! وهي موسيقا داخلية انسابت بعفوية وعذوبة ولكنها خدمت المعنى المراد :
فالوردة جاءت الى مشربه أو مورده المذبوح ولذلك أصابها الذبول بسبب ملح الهاجرة كما تذبل فتيلة المصباح أصابها الموت في برد شديد ولكنها ظلت حاضرة وهذه الصيغ الاشتقاقية تترافق غالباً مع منابع أخرى للموسيقا الداخلية كتكرار الكلمات والحروف الهامسة الذي يقرب الشعر من البوح المهموس كقوله :
آجلها فعاجلها
صرير من أنين القيد
ينفض عن معاصمها صدى صدأ صموت
في صدى صوت جريح
بل أي طاغوت طغاني في كياني
أوطغاها من حناني
أو طغانا جمرة تروي دمانا
يبدو المقطع مقطوعة موسيقية متناغمة في جملها ,منسجمة في حركاتها وفواصل صمتها ,من المحسن البديعي – آجلها فعاجلها – الى تكرار كلمة – صدى – وتكرار حرف الصاد : معاصمها صدى , صدأ , صموت , صوت – الى الصيغ الاشتقاقية « طاغوت , طغاني . طغاها … ,ولكي تكتمل اللوحة الصوتية الموسيقية وتبدو إيقاعات الحالة الوجدانية مسموعة في القلب قبل السمع يلجأ الشاعر الى التقفية الداخلية التي تحمل الى جانب الإيقاع الموسيقي شحناً نفسية تتراوح بين الضعف والقوة وهذا ما يتجلى واضحاً في هذا المقطع :
تجسدني بأسرار
وجاسدني بإسرار
ولو خالجت أو خاتلت موتك في خليجك أو نشيجك
يرتضي عني حياتي من يبابك أو خرابك
هل يبددني ابتداؤك أو نهايات انتهائك وانتهائي
من زوالي أو محالك
.. في صلاتك أو صلاتي
يرتمي سغبي بلا غضبي عليك
أكابد الترحال والأهوال والزلزال منهمراً على تيه ..
أعتقد أن هذا المقطع يشكل مشهداً صوتياً لعناصر الموسيقا الداخلية من الصيغ الاشتقاقية – تجسدني , جاسدني , أسرار , إسرار – الى التقضية الداخلية : خالجت , خاتلت , خليجك , نشيجك , الى التكرار : انتهائك , انتهائي ..
وأعود الى التأكيد أن هذه الموسيقا الداخلية أسهمت في الإفصاح عن الحالة الشعورية التي تحولت الى حالة شعرية حققت الوحدة العضوية بين الشكل والمضمون .
د . غسان لافي طعمة