عندما اجتَمعْنا بعدَ ظهيرةِ هذا اليومِ قالَ صَديقُنَا أبو خالدٍ:
أنا آسفٌ يا جماعةُ، سأغادِرَكُم اليومَ مُبَكِّرا، فأنا مضطَرٌّ لأنْ أصْطَحِبَ الصَّغيرةَ إلى المُصَوِّر منْ أجلِ تسْجيلَها في المدْرَسَةِ.
أشْرقَتْ ابْتِسامَةٌ واسِعَةٌ على شَفتَيْ أبي حَسْبو فعَلِمْنَا أنَّهُ تذكَّرَ شيئاً ما سيُتْحِفُنا به.
فقلْتُ له: أبا حسبو يا صديقي، ابتِسَامتُكُ تنبي عنْ أفْكارٍ تتصَارعُ في مخَيِّلَتِكَ وما أظُنُّها إلا تسْعدنا فهات ما عندك.
تنَحْنَحَ أبو حسبو كعادَتِهِ وقالَ:
لقد ذكَّرَتْني صُورُ المدرَسَةِ بحادِثَةٍ طريفَةٍ حدثَتْ معي منذُ زمنٍ بعيدٍ.
قلْتُ له بِتَمَلُّقٍ : هات ارْوِها لنا.
قالَ: لقد رافقْتُ ابنةَ أخْتي إلى المصورِ ذاتَ يومٍ لاسْتِحْضارِ صُورٍ لها من أجلِ المدْرَسَةِ وقد تجاوَزَتِ السَّادِسةَ من عمرها بقليل، وبعدَ مداوَلاتٍ وسجالاتٍ مع أخْتي استقرَّ الرَّأيُ على أخْذِها إلى مصوِّر جديدٍ حلَّ بالمَدينَةِ منذُ مدَّةٍ وكانَ (علمَاً في رَأسهِ نارٌ) ، يعْرفُهُ القاصي والدَّاني.
قالت شقيقتي: المُصَوِّرونَ القُدامى كُلُّهُم على نفسِ الشَّاكِلَةِ، صورُهم بالأبيضِ والأسودِ وبوضْعِيَةِ جُلوسٍ واحِدَة، أمَّا المصورُ الجديدُ فهو تحْفَةٌ نادِرَةٌ ،صورهُ مذهلةٌ وهي تتماوَجُ بالألوانِ الزَّاهيةِ.
ويتابعُ أبو حسبو حديثَهُ قائلاً:
يقولونَ إنَّ المعلمَ دُريداً وهذا هو اسمُ المصورِ قد سافَرَ أيَّامَ الصِّبا إلى الغرْبِ ليدْرُسَ الطِّبَّ ولكِنَّهُ فشِلَ بالدِّراسَةِ وانتهى به المطافُ إلى تعَلُّمِ الرَّسْمِ والتَّصْوير، و عادَ إلى الوطَنِ بشَهاداتٍ موثَّقَةٍ حسْبَ الأصُولِ تبيحُ له بكُلِّ فخْرٍ مُزاوَلَةَ مهْنَةِ التَّصوير.
و اسْتَأجَرَ محلاً في أرقَى شوارِعِ المَدينَةِ ،واختارَ له منَ الألوانِ والدِّيكوراتِ ما يبهرُ الأبصارَ وقد رصَّعَ صَدْرَ المحلَّ بشهاداتٍ بلغاتٍ أجنبيَّةٍ.
قاطعْتُه قائلاً وقد رميْتُهُ بنظْرةِ عتابٍ قاسيةٍ : كأنَّكَ تُحَدِّثُنا عن إعجابكَ بالمصورِ وقد تناسيْتَ القصْدّ من وراءِ حكايتِكَ !
اعتذرَ أبو حسبو للاطالةِ وقالَ:
عنْدَما دخلْنا المحلَّ استقْبَلنَا المعلمُ دريدٌ الذي فاجأنا بشَكْلِهِ الغريبِ كمحلِّه ولغتِهِ ، فقد كانَ قصيرَ القامةِ منفوخَ البَطْنِ ، كثيفَ اللحْيَةِ، منفوشَ الشَّعْرِ، وقد استقبَلَنا بسيلٍ منَ الكَلِماتِ الأجْنَبيَّةِ مُرحِّبا بنا ورسمَ على شفتيه ابتسامةً سحريَّةً وقد بدا كمُهَرِّجٍ. قاطَعَهُ أبوخالدٍ هذِهِ المرةِ قائلاً: لقد أطلْتَ يا أبا حسبو وأنا مضْطَرٌ للمُغَادرَةِ، وأخافُ أن تفُوتَنِي الخَاتِمَة.
قال أبو حسبو معْتَذِراً: أنا آسِفٌ لقد أطَلْتُ، ولكن النِهايَةَ باتَتْ وشيكةً، وتابع حديثَهُ قائلاً:
الحقيقَةُ أنَّ ابنةَ أختِي سُرَّت وقدْ أحْرَزَتْ نصْراً بِرُؤية هذا الفَنان المُهَرِّجِ .
سألَ المعلِّمُ دريدٌ :لمن الصُورُ؟
أجابَتْ الصَّغيرةُ رئام برنَّةٍ طفوليَّةٍ بريئة:
عمو، الصورُ لي.
وتسَاءلَ المصورُ من جديدٍ دونَ أن تُغادِرَ الابتسَامةُ شفتيْهِ:
ولماذا تريدون الصورَ؟
قالتْ رِئامُ ببراءةٍ: من أجل التسجسلِ في المَدْرَسَةِ عمو.
بعدَها دخَلْنَا غُرْفَةَ التَّصويرِ يسْبِقُنا المعلمُ دريدٌ بحركاتِهِ البَهْلَوانِيَّةِ وكَلِماتِهِ الغَريبَةِ الغربيَةِ ( يس، افكورس، بيان، ميرسي، بل، بيلو) وهي كما تعْلمونَ كلماتٌ أجنبِيةٌّ عرفْت معنى بَعْضِها وغابَ عن ذهْني معنى معظَمِهَا.
أجلسَ المعلمُ دريد الفتاةَ في المقْعدِ ورفعَ رأسَها ووجَّهَ نظَراتِها وطلبَ منها المحافَظَةَ على جلْسَتِها مع رسمِ ابتسامةٍ سحْريَّةٍ على شفتيها.
أسْرَعَ المعلمُ دريدٌ إلى أنوارِهِ يُضيئُها وإلى عدَسَتِهِ ينظُرُ فيها بعينٍ واحِدَةٍ إلى أنْ أعلَنَتْ ومْضَةٌ ساطِعَةٌ انْتِهاءَ عمَلِيَّةِ التصويرِ.
خَرَجْنا من غُرْفَةِ التَّصْويرِ، أمسَكَ المعلمُ دريدٌ قلمَهُ وقالَ بلُغَةٍ تُشْبِهُ لغَةَ الأطفالِ: ما اسم الشَّطُّورة ؟
قالَتْ رئامُ بدلعِ منْ يتباهى باسْمِهِ: رئام عمو.
اكْفَهَرَّ وجهُ المعلمِ دريدٍ، وأزبدتْ شَفَتاهُ، رفعَ القلمَ أمامَ عينيه ولوَّحَ بِهِ راسِماً دوائرَ في الهواءِ وقدْ امتَعَضَتْ أسَاريرُهُ، وذابَتْ ابتِسامَتُه، عِبْرَ تساؤلاتٍ غيْرِ منْتَهِيَةٍ وكَاَنَّهُ أصيبَ بمقْتَلٍ من هولِ المُفَاجأةِ.
وفجْأةً يهوي بالقَلَمِ بحنْقٍ وغضَبٍ على الورقَةِ.
وبينَما كنْتُ أخْرِجُ المالَ منْ جيبي لاحَظْتُ أنَّ الصَّغيرةَ تتطاوَلُ إلى الأعلى وقدْ وقفَتْ على مشْطَيْ قدميها وهي تنظرُ بإمْعانٍ إلى الوَرقَةِ أمامَها، وبينما كنْتُ أتَامَّلُ حركاتِ الصَّغيرَةِ فإذا بها تجذُبُني من طرَفِ ردائي بِشِدَّةٍ وهي تُعْلِنُ اسْتِنْكارها وقالَتْ بِغَضَبٍ:
أبي، عمُّو لا يعرِفُ الكِتَابةَ !
نَظَرْتُ إلى الورقةِ لأفاجَأ بأنَّهُ كتبَ ر ي ء ا م بأحرفٍ مُفْرَدَةٍ متباعِدَةٍ ( راءٌ ياءٌ همزةٌ على السَّطْرِ ألفٌ ميمٌ )
لمْ أتَماَلَكَ نَفْسي فضَحِكْتُ من كلِّ قلْبِي ولمْ أتوَقَّفْ عن الضحكِ إلاَّ عندما نظَرَ إليَّ بغَضَبٍ وزمْجَرَ في وجْهي قائلاً: أتَهْزَأ مِنِّي؟
قُلْتُ معتَذِراً : معاذَ اللهِ أن أهزأَ منكَ.
قالَ واصْفِرارٌ مُشينٌ على وجْهِهِ : ألمْ تقلْ الصُّورُ من أجْلِ التَّسْجيلِ في المدرَسَةِ؟
قلْتُ : بلى الصور من أجل المدرَسَةِ.
قالَ وقدْ حكَّ أرْنَبَةَ أنْفِهِ متسائلاً: ولكِنْ كيف تَعْرِفُ القراءةَ وهي لمْ تدْخُلِ المَدْرَسَةَ بعدُ؟
قلْتُ: هي لا تعْرِفُ القراءةَ ولا الكِتَابَةَ لأنَّها بكلِّ بساطَةٍ لمْ تدخُلِ المدرسةَ بعد، ولكنَّ أهْلها وتَهيئةً لها للمدْرَسَةِ علَّموها الحروفَ وبَعْضَ الكَلِماتِ، وكانَ اسمُها من هذهِ الكلماتِ.
ثُمَّ أرْدَفْتُ قائلاً: منَ الغَريبِ أنَّ رجُلاً مثْلكَ قد زارَ العديدَ من الدُّوَلِ ويُتْقِنُ عدَّةَ لغاتٍ ولا يعْرِفُ لُغَةَ بلادِه عنْدَها قال أبو خالدٍ ساخِراً: أينَ هذا المصورُ سآخُذَ الصَّغيرَةُ إليْهِ.
جمال قاسم السلومي
المزيد...