لا أدري كيف أعادتني المناسبة لاقتطاف لمحات مشرقة من حياة أمي التي كانت تمتلك صفات الأمهات اللواتي حافظن على ولائهن الحاتمي للضيف وبرحيلهن رحل الخير كله معهن وكأن ريحا كانونية باردة أحاطت بجدران المنزل، حتى نحن أبناءها كنا نشعر أن بيتنا كان مليئا بالضياء مع هالة اجتماعية إذ كانت تفيض حياة كيف لا وهي التي تنتمي إلى جيل لا يعرف الزيف ولا المداهنة ما حدا بامتداح خصالها بين الأقرباء والأصدقاء.
ستظل الذكرى بارزة في مخيلتي إذ كنت وثيقة الصلة بها بشكل خاص كانت رفيقة دربي إضافة إلى كونها أمي فلا أدري في أي إطار أخلد صورتها أيقونة في صدري تبرز أمامي كلماتها المليئة بالحكمة بكل دقيقة وكل يوم كنت أعرف كل ميولها وطبيعة تفكيرها ومخاوفها وأمانيها إذ هي( أمي ياملاكي) الأغنية التي كلما سمعتها أحس بيد ناعمة تلمس خدودي، أمي التي لم تكن تفصح عن آلامها أيام الحرب لكنها أثقلت نفسها بالخوف على أولادها لما رأته من أهوال أمام ناظريها وخاصة أنها شهدت استشهاد جارنا غدرا، يعكس مايدور في مخيلتها من خوف أن تفقد أبناء آخرين وهي التي فقدت ابنا شهيدا وزوجا مات في ذروة الشباب هي الحرب دوما تفقد المرء هدوءه وأمنه واستقراره لما يتلقاه خلالها من صدمات، كانت تعي وقتها أن الموت أمر محتوم لا مفر منه ولا مهرب لكن النفس أمارة بالحزن ، ما أصابها بانهيار ذهني وهي التي أدركت بعد حين من الرحيل عن الحي الذي أحبته والبيت الذي اعتادت العيش،كان يراودها الأمل بالرجوع إليه يوما لتحتضن مكنة الخياطة التي كانت تخصها بالحنين رغم بساطتها وبفقدها شعرت وكأنها فقدت تاريخا آخر وذكريات سهر طويل إذ كانت تحس وهي تجلس إليها لترتق ثوبا ، كانت تبدو شاردة التفكير، ساهمة النظرات تقدمت بالسن خلال فترة قصيرة تحت تأثير صدمة نالت منها ثم بدأت تكثر من الأسئلة، كنت أصغي إليها في لهفة ممزوجة بالجزع وكل سؤال من أسئلتها كان يمس شغاف قلبي لما آل إليه حالها وهو على ما يبدو صار أسلوبها للتنفيس عما يعتمل في صدرها ، تعود إلى الماضي البعيد لتنسى حاضرها وهي التي كانت تعيش ذاكرة موزعة بين الحياة والموت.
صورة تلك الأيام تخطر ببالي دون إرادة مني،كانت اللحظة التي عدنا بها من القرية بعد التشييع أشد اللحظات حزنا ومرارة إذ كيف سأواجه سريرها الفارغ والذي تجمعنا حوله وكان ما يزال يحمل رائحتها بعد أن احتضن فترات مرضها المزمن نقرأ التعاويذ ببكاء فاض ليغرق العالم كله ومازال الطوفان متدفقا، لكن للقدر أحكامه فربما غادرت هذا العالم المظلم الكئيب لترقد بسلام في صباح يوم كانوني بارد.
عفاف حلاس