ترجع معرفتي به إلى عام 1951، إنّ لم تخنّي الذاكرة، والذاكرة البعيدة لدى الشيوخ أمثالي مقبولة، بحسب التجربة، وكان يتقدّمني بصفّ واحد في إعداديّة خالد بن الوليد ، جمعَنا مبدئيّا انتماؤنا لحزب واحد، يرفع شعارات الوحدة والحريّة والاشتراكيّة.
منذ ذلك السنّ المبكر كان مرجعَنا، كطلاّب، في النّحو، والمؤكّد أنّه تأثّر بعدد من أساتذة العربي، فقد كان من مدرّسينا رضا صافي، ومحي الدّين الدرويش، وعطاالله المغامس، وشاكر الفحّام، وعبد المعين الملوحي، وخالد عكاش، وقد تطول القائمة لو أردت الإحصاء، والمدرّس، في مثل سنّ بداية المراهقة،.. حين تتجلّى شخصيّته في تدريسه،.. وفي مصداقيّته،.. يتحوّل إلى أنموذج.
كان يسرّح شعره بطريقة الممثّل المصريّ الشهير، في تلك الأيام، عماد حمدي، مجدّا في دروسه، متفوّقا فيها، بدأ كتابة الشعر في مثل ذلك السنّ، وكان يُخفيه إلاّ عن بعض أصدقائه، وأنا واحد منهم، ولا أُنكر، فقد كنّا ننظر إليه بشيء من التهيّب حين يتعلّق الأمر بالإعراب، ولعلّه كان يتوق لأن يكون واحدا من الذين يُشار إليهم بالبنان، في هذا المجال، وهذا ماكان في لاحق السنوات.
التقينا بعد افتراق فرضتْه طبيعة العمل، وحاجات المعاش، والتقينا عام 1960في مدينة تدمر، وقد كان مدرّسا لمادة اللغة العربيّة في مدارسها، وقد يكون لهذا كتابة أخرى،نشر العديد من قصائده في مجلات لبنانيّة، وفي صحف حمص،وكان يصدر فيها أكثر من خمس جرايد، كلّها تفتح ركنا لشيء من فنون الأدب.
في ذلك الزمن بدأت تصلنا رياح الشعر الحرّ، كما كان يُسمّى، وأعني شعر التفعيلة، وقد انحاز إليه عدد من الذين أصبحوا من شعراء حمص، موريس قبق، ممدوح السكاف، غسان طه، وكاتب هذه السطور، أمّا هو فقد ظلّ متمسّكا بشكل العمود، مخلصا له، ولم يكن خصما مجابها للشعر الحرّ، ولكنّه لايخفي ميله لقصيدة العمود، وكانت تُهمة معاداة نظام التفعيلة بين الشعراء تعني ، بشكل ما، شيئا من (الرّجعيّة)،!! فقد ترافقت ولادة هذا النّظام الشعري مع فترة نهوض عربيّ، تقدّمي، في مواجهة الأحلاف الغربيّة الاستعماريّة.
ظلّ منذ بواكير شبابه يواجه خطر جلطة في وريد رجله، وألجأته عدّة مرّات إلى الجلوس في البيت، وربّما ترك هذا في نفسه آثارا من الحزن، ورغم ذلك فقد أوقف أكثر من نصف شعره على مانسمّيه شعر القضيّة العربيّة، فلم تخلُ مناسبة وطنيّة أو قوميّة من قصيدة له، وظلّ ملتزما بانتمائه السياسي حتى استشهاده.
كان من أوائل من مدّد هاتفا لبيته في وادي السايح، من أبناء شريحتنا، وكانت الأرقام رباعيّة في المدينة كلّها، وكان الحصول على الهاتف حلما من الأحلام، ولقد دخلت مفردة الهاتف والهتّاف في الكثير من قصائده الوجدانيّة،كان من أوائل من تمكّن من شراء سيارة صغيرة مناسبة، فقد كان نشيطا في إعطاء الدروس الخصوصيّة في اللغة العربيّة،.. اشتراها يوم لم يكن يقوم بذلك إلاّ الممتلئون ماديّا، وقد كانت دروس الأستاذ في الصفّ كافية وافية في كلّ مادة، وربّما تباهت بعض العائلات الثريّة بأنّ أستاذا يأتي إلى بيتهم لتدريس ابنهم ،أو ابنتهم.
كان بشوشا، مسالما، ودودا، خرج ذات صباح من بيته في وادي السّايح للفرن القريب منه ، وكان ذلك في ثمانينات القرن الماضي، اغتالته جماعة الأخوان المسلمين ، ونفذ ذلك أحد المجرمين قرب باب الفرن، فسقط مضرَّجا بدمه، وسقطت من يده أرغفة الخبز ،
ذات يوم وصلني مصنّف ضخم يضمّ مئات من الصفحات المرقونة بالآلة الكاتبة، وقد حُوِّل إليّ من اتحاد الكتاب العرب بدمشق، لانتقاء مايشكّل مجموعة شعريّة، وكان ذلك ماتركه الشاعر الشهيد المرحوم شكري هلال، ولقد جهدت أن أختار من هذا الكمّ الهائل أفضل مافيه بحسب ذائقتي، مع التمسّك بالإخلاص له من جهة، وللذائقة الشعريّة من جهة أخرى.
رحم الله شكري هلال، أبا الشّكر، الشاعر الحزين، شاعر الرومانس، كما كانوا يسمّونه…
عبد الكريم النّاعم